الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُخْسِرِينَ } * { وَزِنُواْ بِٱلْقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ }

الكيل: آلة تُقدّر بها الأشياء التي تُكال، ووحدته: كَيْلة أو قَدح أو أردب. والميزان كذلك: آلة يُقدَّر بها ما يُوزَن. ومعنى { وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُخْسِرِينَ } [الشعراء: 181] المخسِر: هو الذي يتسبب في خسارة الطرف الآخر في مسألة الكيل، بأن يأخذ بالزيادة، وإنْ أعطى يُعطِي بالنقصان. وفي الوزن قال { بِٱلْقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ } [الشعراء: 182]. والقسطاس: يعني العدل المطلق في قدرة البشر وإمكاناتهم في تحرِّي الدّقّة في الوزن، مع مراعاة اختلاف الموزونات، فوزن الذهب غير وزن التفاح مثلاً، غير وزن العدس أو السمسم، فعليك أنْ تتحرّى الدقة قَدْر إمكانك، لتحقق هذا القسطاس المستقيم. لكن، لماذا خصَّ الكيل والوزن من وسائل التقدير والتقييم، ولم يذكر مثلاً القياس في المساحات والمسافات بالمتر أو بالذراع؟ قالوا: لأن الناس قديماً - وكانت أمماً بدائية - لا تتعامل فيما يُقاس، فلا يشترون القماش مثلاً: لأنه يُغزل، تغزله النساء ويغزله الرجال، ولم يكُنْ أحد يغزل لأحد أو يبيع له، فهذه صورة حضارية رأيناها فيما بعد. وقديماً، كان الناس يتعاملون بالتبادل والمقايضة، وفي هذه الحالة لا يوجد بائع على حِدَة ولا مُشْترٍ على حِدَة، فلا يتفرد البائع بالبيع، والمشتري بالشراء، إلا في حالة مبادلة السلعة بثمن، كما قال تعالى:وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ.. } [يوسف: 20] أي: باعوه. أما في حالة المقايضة، فأنت تأخذ القمح تأكله، وأنا آخذ التمر آكله، فالانتفاع هنا انتفاع مباشر بالسلعة، فإنْ قدَّرْتَ أن كل واحد في الصفقة بائع ومشترْ. تقول: شَرَى وباع. وإنْ قدَّرْت الأثمان التي لا ينتفع بها انتفاعاً مباشراً كالذهب والفضة، أو أي معدن آخر، وهذه الأشياء لا تؤكل فهي ثمن، أمّا الأشياء الأخرى فصالحة أنْ تكون سلعة، وصالحة لأنْ تكون ثمناً. وقد أفرد القرآن الكريم سورة مخصوصة لمسألة الكيل والميزان هي " سورة المطففين " ، يقول سبحانه:وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } [المطففين: 1-3]. نقول: كال له يعني: أعطاه، واكتال عليه يعني: أخذ منه. فإن أخذ أخذ وافياً، وإنْ أعطى أعطى بالنقص والخسارة. والقرآن لا ينعى عليه أن يستوفى حقّه، لكن ينعى عليه أن ينقص من حَقِّ الآخرين، ولو شيئاً يسيراً. فمعنى المطففين من الشيء الطفيف اليسير، فإذا كان الويل لمن يظلم في الشيء الطفيف، فما بال مَنْ يظلم في الكل؟ فاللوم هنا لمَنْ يجمع بين هذين الأمرين: يأخذ بالزيادة ويُعطي بالنقص، أما مَنْ يعطي بالزيادة فلا بأس، وجزاؤه على الله، وهو من المحسنين الذين قال الله فيهم:مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ.. } [التوبة: 91]. ومع تطور المجتمعات بدأ الناس يهتمُّون بقياس دقة آلات الكيل والوزن والقياس، فَوُجِدت هيئات متخصصة في معايرتها والتفتيش عليها ومتابعة دِقّتها لأنها مع مرور الزمن عُرْضة للنقص أو الزيادة، فمثلاً سنجة الحديد - التي نزن بها قد تزيد إنْ كانت في مكان بحيث تتراكم عليها الزيوت والتراب، وقد تنقص بالحركة مع مرور الوقت، كما تنقص مثلاً أكرة الباب من كثرة الاستعمال، فتراها لامعة، ولمعانها دليل النقص، وإنْ كان يسيراً.

السابقالتالي
2