الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ }

وقوله تعالى: { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ } [الشعراء: 106] يريد أن يُحنِّن قلوبهم عليه بكلمة { أَخُوهُمْ.. } [الشعراء: 106] التي تعني أنه منهم وقريب الصِّلة بهم، ليس أجنبياً عنهم، فهم يعرفون أصله ونشأته. ويعلمون صفاته وأخلاقه. لذلك لما بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم وأبلغ الناس برسالته بادر إلى الإيمان به أقرب الناس إليه، وهي السيدة خديجة دون أنْ تسمع منه آية واحدة، وكذلك الصِّديق أبو بكر وغيرهما من المؤمنين الأوائل، لماذا؟ لأنهم بَنَوْا على تاريخه السابق، واعتمدوا على سيرته فيهم قبل الرسالة، فعلموا أن الذي لا يكذب على الناس مستحيل أن يكذب على رب الناس. والسيدة خديجة رضوان الله عليها تعتبر أول فقيهة، وأول عالمة أصول في الإسلام، حينما جاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو ما يعاني، ويخشى أن يكون ما يأتيه من الوحي رئياً من الجن أو توهمات تفسد عليه عقله وتفكيره، قالت له - انظر إلى العظمة - " والله إنك لتصل الرحم، وتَقْرى الضيف، وتحمل الكَلَّ، وتُعين على نوائب الدهر، والله لا يخزيك الله أبداً ". ولما علم الصِّدِّيق بحادثة الإسراء والمعراج بادر بالتصديق، ولم يتردد، ولما سُئل عن ذلك قال: إننا نصدقه في الأمر يأتي من السماء فكيف لا نصدقه في هذه، فإنْ كان قال فقد صدق. إذن: فمقياس الصدق لديه أن يقول رسول الله لذلك استحق الصِّديق هذا اللقب عن جدارة، حتى " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقول في حقه: " كنتُ أنا وأبو بكر في الجاهلية كفرسي رهان - يعني: في خصال الخير - فسبقتُه إلى النبوة فاتبعني، ولو سبقني لاتبعته ". هذه كلها معانٍ نفهمها من قوله تعالى: { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ.. } [الشعراء: 106]. وهذا معنى قوله تعالى:لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ.. } [التوبة: 128] فهذه من حكمة الله في الرسل، وعجيب أن يقول أهل العناد من القوم: نريد ملكاً رسولاً، وأن يقفوا من رسول الله موقف العداء، وكان يجب عليهم على الأقل أن يُمكِّنوه من دعوته، ويُمكِّنوا عقولهم من أنْ تفهم لا أن تدخل في الأمر على هوى سابق. فالذي يتعب الناس في استقبال الحق أن تكون قلوبهم مشغولة بباطل، والحق لا يجتمع مع الباطل ولا يضمهما محلٌّ واحد لذلك إذا أردت أن تبحث في مسألة، فعليك أنْ تُخرِج من قلبك الباطل أولاً، ثم حكِّم عقلك في الأمر، واستفتِ قلبك فما سمح به فأدخله. وهذه نراها حتى في الماديات، فالحيز الواحد لا يسع شيئين أبداً، يقولون: عدم تداخل، كما لو ملأت قارورة بالماء مثلاً، فقبل أن يدخل الماء لا بُدَّ أنْ يخرج الهواء، فنراه على شكل فقاعات.

السابقالتالي
2