الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ }

قلنا: فإن الله تعالى أعطانا النور الحسيِّ الذي نرى به مرائي الأشياء، وجعله وسيلة للنور المعنوي، وقلنا إن الدنيا حينما تظلم ينير كل مِنَّا لنفسه على حسب قدراته وإمكاناته في الإضاءة، فإذا ما طلعتْ الشمس وأنار الله الكون أطفأ كل مِنَّا نوره لأن نور الله كافٍ، فكما أن نور الله كافٍ في الحسيات فنوره أيضاً كافٍ في المعنويات. فإذا شرع الله حكماً معنوياً يُنظِّم حركة الحياة، فإياكم أن تعارضوه بشيء من عندكم، فكما أطفأتم المصابيح الحسية أمام مصباحه فأطفئوا مصابيحكم المعنوية كذلك أمام أحكامه تعالى وأوامره، والأمر واضح في الآيات الكونية. { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ.. } [النور: 35] كما نقول ولله المثل الأعلى: فلان نوَّر البيت، فالآية لا تُعرِّف الله لنا، إنما تُعرِّفنا أثره تعالى فينا، فهو سبحانه مُنوِّر السماوات والأرض، وهما أوسع شيء نتصوره، بحيث يكون كل شيء فيهما واضحاً غيرَ خفيّ. ثم يضرب لنا ربنا - عز وجل - مثلاً توضيحياً لنوره، فيقول: { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ.. } [النور: 35] أي: مثَلُ تنويره للسماوات وللأرض { كَمِشْكَاةٍ.. } [النور: 35] وهي الطاقة التي كانوا يجعلونها قديماً في الجدار، وهي فجوة غير نافذة يضعون فيها المصباح أو المِسْرجة، فتحجز هذه الفجوة الضوء وتجمعه في ناحية فيصير قوياً، ولا يصنع ظِلاً أمام مسار الضوء. والمصباح: إناء صغير يُوضَع فيه زيت أو جاز فيما بعد، وفي وسطه فتيل يمتصّ من الزيت فيظل مشتعلاً، فإنْ ظلَّ الفتيل في الهواء تلاعبَ به وبدَّد ضوءه وسبَّب دخاناً لأنه يأخذ من الهواء أكثر من حاجة الاحتراق لذلك جعلوا على الفتيل حاجزاً من الزجاج ليمنع عنه الهواء، فيأتي الضوء منه صافياً لا دخانَ فيه، وكانوا يسمونه الهباب. وهكذا تطور المصباح إلى لمبة وصعد نوره وزادت كفاءته، ومن ذلك قوله تعالى: { ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ.. } [النور: 35] لكنها ليست زجاجة عادية، إنما زجاجة { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ.. } [النور: 35] يعني: كوكب من الدُّرِّ، والدُّر ينير بنفسه. كذلك زَيْتها ليس زيتاً عادياً، إنما زيت زيتونة مباركة. يقول الحق سبحانه: { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ.. } [النور: 35]. يعني: شجرة زيتون لا شرقية ولا غربية، يعني: لا شرقية لأنها غربية، ولا غربية لأنها شرقية، فهي إذن شرقية غربية على حَدٍّ سواء، لكن كيف ذلك؟ قالوا: لأن الشجرة الزيتونة حينما تكون في الشرق يكون الغرب مظلماً، وحينما تكون في الغرب يكون الشرق مظلماً، إذن: يطرأ عليها نور وظلمة، إنما هذه لا هي شرقية ولا هي غربية، إنما شرقية غربية لا يحجز شيء عنها الضوء. وهذا يؤثر في زيتها، فتراه من صفائه ولمعانه { يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ.

السابقالتالي
2