الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ٱلْغَافِلاَتِ ٱلْمُؤْمِناتِ لُعِنُواْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }

نلحظ أن الآيات تحدثتْ عن حَدِّ القذف وما كان من حادثة الإفك، ثم ذكرت آية العتاب لأبي بكر في مسألة الرزق، ثم عاد السياق إلى القضية الأساسية: قضية القذف، فلماذا دخلتْ مسألة الرزق في هذا الموضوع؟ قالوا: لأن كل معركة فيها خصومة قد يكون لها آثار تتعلق بالرزق، والرزق تكفَّل الله به لعباده لأنه سبحانه هو الذي استدعاهم إلى الوجود، سواء المؤمن أو الكافر، وحين تعطي المحتاج فإنما أنت مناول عن الله، ويد الله الممدودة بأسباب الله. والحق تبارك وتعالى يحترم ملكية الإنسان مع أنه سبحانه رازقه ومعطيه، لكن طالما أعطاه صار العطاء مِلْكاً له، فإنْ حَثَّه على النفقة بعد ذلك يأخذها منه قَرْضاً لذلك يقول سبحانه:مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً.. } [البقرة: 245]. فإنْ أنفق الموسر على المعسر جعله الله قَرْضاً، وتولّى سداده بنفسه ذلك لأن الله تعالى لا يرجع في هِبَته، فطالما أعطاك الرزق، فلا يأخذه منك إلا قَرْضاً. لذلك يقول تعالى:هَا أَنتُمْ هَـٰؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ.. } [محمد: 38]. وفي موضع آخر يقول عن الأموال:إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } [محمد: 38] لأن الإنسان تعب في جمع المال وعَرق في سبيله، وأصبح عزيزاً عليه لذلك يبخل به، فأخذه الله منه قَرْضاً مردوداً بزيادة، وكان الرزق والمال بهذه الأهمية لأنه أول مَنَاط لعمارة الخليفة في الأرض لذلك ترك الحديث عن القضية الأساسية هنا، وذكر هذه الآية التي تتعلَّق بالرزق. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:حَافِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَاتِ وٱلصَّلاَةِ ٱلْوُسْطَىٰ.. } [البقرة: 238] وقد ذُكِرَتْ وسط مسائل تتعلق بالعِدَّة والكفارة، وعِدَّة المتوفَّى عنها زوجها، فما علاقة الصلاة بهذه المسائل؟ قالوا: لأن النزاعات التي تحدث غالباً ما تُغيِّر النفس البشرية وتثير حفيظتها، فإذا ما قمتَ للوضوء والصلاة تهدأ نفسك وتطمئن. وتستقبل مسائل الخلاف هذه بشيء من القبول والرضا. نعود إلى قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ٱلْغَافِلاَتِ.. } [النور: 23] المحصنة: لها إطلاقات ثلاث، فهي المتزوجة لأن الإحصان: الحِفْظ وكأنها حفظتْ نفسها بالزواج، أو هي العفيفة، وإنْ لم تتزوج فهي مُحْصَنة في ذاتها، والمحصنة هي أيضاً الحرة لأن عملية البِغَاء والزنا كانت خاصة بالإماء. و { ٱلْغَافِلاَتِ.. } [النور: 23] جمع غافلة، وهي التي لا تدري بمثل هذه المسائل، وليس في بالها شيء عن هذه العملية، ومن ذلك ما ورد في الحديث الشريف " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل بريرة خادمة السيدة عائشة: ما تقولين في عائشة يا بريرة؟ فقالت: تعجن العجين ثم تنام بجانبه فتأتي الدواجن فتأكله وهي لا تدري " وهذا كناية عن الغفلة لأنها ما زالت صغيرة لم تنضج نُضْج المراهقة ومع نُضْج المراهقة نُضْج اليقين والإيمان.

السابقالتالي
2