الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهُوَ ٱلَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ ٱخْتِلاَفُ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }

{ يُحْيِي وَيُمِيتُ.. } [المؤمنون: 80] فِعْلان لا بُدَّ أن ينشآ بعد وجود الحياة ووجود الموت، فالخالق - عز وجل - يُوجِد الحياة أولاً، ويوجد الموت، ثم يجري حدثاً منهما على ما يريده. والحياة سبقتْ الموت في كل الآيات، إلا في آية واحدة في سورة تبارك:ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ.. } [الملك: 2] وعِلَّة ذلك أن الله تعالى يعطي للإنسان بالحياة إرادةً تُنشِىء الحركة في كل أجهزته، ولك أن تتأمل: ما الذي تفعله إنْ أردتَ أن تقوم من مكانك؟ ماذا تفعل إنْ أردتَ تحريك يدك أو قدمك؟ إنها مجرد إرادة وتتحرك أعضاؤك دون أن تدري أو تُجهد نفسك للقيام بهذه الحركات، ودون أن تباشر أي شيء. إذن: بمجرد إرادتك تنفعل لك الجوارح وأنت مخلوق لربك، فإذا كان المخلوق يفعل ما يريد بلا معالجة، فكيف نستبعد هذا في حقِّه - سبحانه وتعالى - ونكذب أنه يقول للشيء: كُنْ فيكون، مع أننا نفعل ما نريد بجوارحنا بمجرد الإرادة، ودون أن نأمرها بشيء أو نقول شيئاً، والله سبحانه وتعالى يقول للشيء: كُنْ فيكون، وأنت تفعل دون أن تقول. وقد قدَّم الحق سبحانه الموتَ في هذه الآية:ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ.. } [الملك: 2] لأن الحياة ستُورث الإنسانَ غروراً في سيطرة إرادته على جوارحه فيطغى، فأراد ربه - عز وجل - أن يُنبهه: تذكّر أنني أميتُ ليستقبل الحياة ومعها نقيضها، فيستقيم في حركة الحياة. وصفة الخَلْق والإماتة صفات لله قديمة قبل أنْ يخلق شيئاً أو يميت شيئاً لأنها صفات ثابتة لله قبل أنْ يباشر متعلقات هذه الصفات كما قلنا، ولله المثل الأعلى: الشاعر حين يقول قصيدة قالها لأنه شاعر ولا نقول: إنه شاعر لأنه قال هذه القصيدة، فلولا صفة الشعر فيه ما قال. وكما أن الحياة مخلوقة، فالموت كذلك مخلوق، وقد يقول قائل: إذا أطلقتَ رصاصة على شخص أردَتْهُ قتيلاً فقد خلقتَ الموت. نقول: الحمد لله أنك لم تدَّع الإحياء واكتفيتَ بالموت، لكن فَرْق بين الموت والقتل، القتل نَقْض للبِنْية يتبعه إزهاق للروح، أما الموت فتخرج الروح أولاً دون نَقْض للبنية. لذلك يقول سبحانه:وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ.. } [آل عمران: 144]. والنمرود الذي حَاجَّ إبراهيم - عليه السلام - في ربه أمر بقتل واحد وتَرْك الآخر، وادَّعى أنه أحيا هذا، وأمات هذا، وكانت منه هذه الأعمال سفسطة لا معنى لها، ولو كان على حَقٍّ لأمرَ بإحياء هذا الذي قتله لذلك قطع عليه إبراهيم - عليه السلام - هذا الطريق ونقله إلى مجال آخر لا يستطيع المراوغة فيه. إذن: هَدْم البِنْية يتبعه خروج الروح لأن للروح مواصفات خاصة، بحيث لا تحل إلا في بنية سليمة، وقد أوضحنا هذه المسألة - ولله المثل الأعلى - بلمبة الكهرباء، فقوة الكهرباء كامنة في الأسلاك لا نرى نورها إلا إذا وضعنا اللمبة مكانها، ويكون لها مواصفات بحيث لا تضيء إلا إذا توفرتْ لها هذه الصفات، فإنْ كُسِرَت ينطفىء نورها.

السابقالتالي
2 3 4