الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ }

بعد أن أعطانا هذه اللقطة الموجزة من قصة موسى وهارون انتقل إلى المسيح ابن مريم، والقرآن في حديثه عن عيسى عليه السلام مرة يقول: ابن مريم، ومرة يقول: عيسى بن مريم. وتسمية عيسى عليه السلام بأمه هي التي جعلتْ سيدتنا وسيدة نساء العالمين مريم ساعة تُبشَّر بغلام تستنكر ذلك، وتقول: كيف ولم يمسسني بشر؟ ولم يخطر ببالها أنها يمكن أنْ تتزوّج وتُنجب، لماذا؟ لأن الله سماه ابن مريم، وما دام سماه بأمه، إذن: فلن يكون له أب. وليس أصعب على الفتاة من أن تجد نفسها حاملاً ولم يمسسها رجل لأن عِرْض الفتاة أغلى وأعزّ ما تملك، لذلك مهّد الحق - تبارك وتعالى - لهذه المسألة، وأعدَّ مريم لاستقبالها، وأعطاها المناعة اللازمة لمواجهة هذا الأمر العجيب، كما نفعل الآن في التطعيم ضد الأمراض، وإعطاء المناعة التي تمنع المرض. فلما دخل زكريا - عليه السلام - على مريم فوجد عندها رزقاً لم يأْتِ به، وهو كفيلها والمسئول عنها، سألها:أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ.. } [آل عمران: 37] وكان هذا الردّ من مريم عن فَهْم تام لقضية الرزق، ولم يكُنْ كلام دراويش، بدليل أنها قالت بعدها:إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [آل عمران: 37]. وفي هذا الموقف درس لكل أب ولكل وليّ أمر ورب أسرة أن يسأل أهل بيته عن كل شيء يراه في بيته ولم يأْتِ هو به، حتى لا يدعَ لأولاده فرصة أنْ تمتد أيديهم إلى ما ليس لهم. لقد انتفع زكريا - عليه السلام - بهذا القول وانتبه إلى هذه الحقيقة، نعم زكريا يعلم أن الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب، لكن ذلك العلم كان معلومة في حاشية الشعور، فلما سمعها من مريم خرجتْ إلى بُؤرة شعوره، وعند ذلك دعا الله أن يرزقه الولد وقد بلغ من الكِبَر عِتياً، وامرأته عاقر. وكذلك انتفعت بها مريم حين أحسَّتْ بالحمل دون أن يمسسْها بشر فاطمأنتْ لأن الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب. وقوله تعالى: { وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ.. } [المؤمنون: 50] فأخبر سبحانه عن المثنى بالمفرد { آيَةً.. } [المؤمنون: 50] لأنهما مشتركان فيها: مريم آية لأنها أنجبت من غير زوج، وعيسى آية لأنه وُلِد من غير أب، فالآية إذن لا تكون في أحدهما دون الآخر، وهما فيها سواء. لذلك يراعي النص القرآني هذه المساواة فيُقَدِّم عيسى في آية: { وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً.. } [المؤمنون: 50] ويقدم مريم في آية أخرى:وَجَعَلْنَاهَا وَٱبْنَهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 91] هذه العدالة في النص لأنهما سواء في الخبرية لا يتميز أحدهما على الآخر. والآية هي الأمر العجيب الذي يُثبت لنا طلاقة قدرة الخالق في الخَلْق، وحتى لا يظن البعض أن مسألة الخَلْق مسألة ميكانيكية من أب وأم، لذلك كان وجه العجب في خَلْق عيسى أن يخرج عن هذه القاعدة ليجعله الله دليلاً على قدرته تعالى، فإنْ أراد أنْ يخلق خلق من العدم، أو من أب فقط، أو من أم فقط، وحتى في اكتمال العنصرين يوجد الأب والأم، لكن لا يوجد الإنجاب، إذن: المسألة إرادة لله عز وجل، وطلاقة لقدرة إلهية لا حدودَ لها.

السابقالتالي
2 3