الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِيۤ آبَآئِنَا ٱلأَوَّلِينَ }

الملأ: من الملء يعني: الشيء الذي يملأ الشيء، فالملأ يعني الذين يملأون العيون بشرفهم ومكانتهم وعظمتهم وأبهتِهم، ومن ذلك قولهم: فلان مِلءُ العين، أو مِلْءُ السمع والبصر، ويقولون للرجل إذا بلغ في الحُسْن مبلغاً: فلان قَيْد العيون يعني: حين تراه لا تصرف بصرك إلى غيره من شِدَّة حسنه كأنه قيَّد بصرك نحوه. أما في المقابل فيقولون: فلان تتقحمه العين ولا تراه وكأنه غير موجود. إذن: الملأ: هم الذين يملؤون صدور المجالس أُبَّهة وفخامة ووجاهة وسيادة، لكن، لماذا هؤلاء بالذات هم الذين تعصَّبوا ضده وواجهوه؟ قالوا: لأن منهج الله ما جاء إلا لإصلاح ما فسد في الكون وما استشرى فيه من شر، فالحق - تبارك وتعالى - يُنزِل منهجاً على لسان رسول أول، ويطلب من قومه أن يُبلِّغوا منهج رسولهم من بعده، لكن تأتي الغفلة على هذا المنهج فيخرج الناس عنه ويأتي خروجهم عن منهج ربهم على عِدَّة صور: فمنهم مَنْ يخرج عن منهج ربه ويصنع الذنب، إلا أنه يعاود نفسه ويراجعها ويلومها وسرعان ما يتوب ويندم، فزاجره من نفسه وواعظه من داخله، وهؤلاء الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً. ومنهم مَنْ يخرج على منهج ربه خروجاً لا رجعةَ له ولا زاجر، وهذا نسميه بلغتنا فاقد يعني: لم يَعُدْ له زاجر من شرع ولا من ضمير. ويبقى بعد ذلك زاجر المجتمع حين يرى مثل هؤلاء الخارجين عن منهج الحق عليه أنْ يتصدَّى لهم، ويقاطعهم ولا يودهم ولا يحترمهم، وإلا لو ظَلَّ المنحرف ومرتكب القبائح على حاله من احترام الناس وتقديرهم، ولو ظلَّ على مكانته في المجتمع لتمادى في غَيِّه وأسرف على نفسه وعلى مجتمعه فيستشري بذلك الشر في المجتمع، ويعُمّ الفساد وتشيع الفوضى. ألاَ ترى الشرع الحكيم حين جعل الدية في القتل على العاقلة يعني: عائلة القاتل، لا على القاتل وحده؟ لماذا؟ لكي يأخذوا على يد ولدهم إن انحرف أو بدَتْ عنده بوادر الاعتداء لأنهم جميعاً سيحملون هذه التبعة. ونقول: خُصَّ الملأ بالذات لأنهم هم المنتفعون بالشر والفساد في المجتمع، ومن مصلحتهم أنْ يستمر هذا الوضع لتبقى لهم سلطتهم الزمنية ومكانتهم لذلك هم أول مَنْ يقابلون الرسالات بالجحود والنكران. ألم يقل الحق سبحانه عنهم في آية أخرى:مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا.. } [هود: 27]. فهؤلاء الذين يُسمُّونهم أراذل هم المستضعفون والفقراء والمطحونون والمهمومون بأمور الخَلْق والدين والقيم، فما إنْ تسمع آذانهم عن رسالة إلا تلهَّفوا عليها وارتموا في أحضانها لأنها جاءت لتنقذهم لذلك يكونون أول مَنْ يؤمن. وإنْ جاء المنهج لإنصاف هؤلاء، فقد جاء أيضاً لينزع من أصحاب السلطان والقهر والجبروت سلطانهم وتعاليهم، فلا بُدَّ أن يواجهوه ويعاندوه.

السابقالتالي
2 3 4