الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّٰهُ فِي ٱلأَرْضِ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَٰدِرُونَ }

يقول تعالى عن الماء: { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ } [المؤمنون: 18] فهل الماء مَقرُّه السماء؟ لا، الماء مقرُّه الأرض، كما جاء في قول الله تعالى:قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ } [فصلت: 9-10]. لما استدعى الخالق - عز وجل - الإنسان إلى هذا الوجود جعل له في الأرض مُقوِّمات استبقاء حياته من الهواء والقوت والماء، والإنسان كما قلنا يستطيع أن يصبر على الطعام، وصبره أقل على الماء، لكن لا صبرَ له على الهواء لذلك شاءت قدرة الله ألاّ يُملّكه لأحد لأنه مُقوِّم الحياة الأول، فالغلاف الجوي والهواء المحيط بالأرض تابع لها وجزء منها داخل تحت قوله:وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا } [فصلت: 10] بدليل أنهم حينما يخرجون عن نطاق الأرض يمتنع الهواء. ومن حكمة الخالق - عز وجل - وقدرته أنْ جعل الماء على الأرض مالحاً لأن الملح أساس في صلاح الأشياء التي يطرأ عليها الفساد، فالماء العذب عُرضة للتغيُّر والعطن، وبالملح نصلح ما نخشى تغيُّره فنضعه على الطعام ليحفظه ونستخدمه في دباغة الجلود.. الخ لذلك قال الشاعر:
يَا رِجَالَ الدينِ يا مِلْحَ البَلَدِ   مَنْ يُصلح الملحَ إذَا المِلْحُ فَسَد
إذن: أصل الماء في الأرض، لكن ينزل من السماء بعد عملية البَخْر التي تُصفيه فينزل عَذْباً صالحاً للشرب وللري، وقلنا: إن الخالق سبحانه جعل رقعة الماء على الأرض أكبر من رقعة اليابسة حتى تتسع رقعة البَخْر، ويتكون المطر الذي يكفي حاجة أهل الأرض. ومن رحمة الله بنا أن ينزل الماء من السماء { بِقَدَرٍ } [المؤمنون: 18] يعني: بحساب وعلى قَدْر الحاجة، فلو نزل هكذا مرة واحدة لأصبح طوفاناً مُدمّراً، كما حدث لقوم نوح ولأهل مأرب. وفي موضع آخر يقول سبحانه:وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [الحجر: 21]. ثم يقول سبحانه: { فَأَسْكَنَّاهُ فِي ٱلأَرْضِ.. } [المؤمنون: 18] لأننا نأخذ حاجتنا من ماء المطر، والباقي يتسرب في باطن الأرض، كما قال سبحانه:فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي ٱلأَرْضِ } [الزمر: 21] ومن عجيب قدرة الله في المياه الجوفية أنها تسير في مسارب مختلفة، بحيث لا يختلط الماء العَذْب بالماء المالح مع ما يتميز به الماء من خاصية الاستطراق، والعاملون في مجال حفر الآبار يجدون من ذلك عجائب، فقد يجدون الماء العَذْب بجوار المالح، بل وفي وسط البحر لأنها ليست مستطرقة، إنما تسير في شعيرات ينفصل بعضها عن بعض. والمياه الجوفية مخزون طبيعي من الماء نُخرجه عند الحاجة، ويُسعِفنا إذا نَضُبَ الماء العَذْب الموجود على السطح { فَأَسْكَنَّاهُ فِي ٱلأَرْضِ.

السابقالتالي
2