الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ }

حسبتم ظننتم يعني: ماذا كنتم تظنون في خَلْقنا لكم؟ كما قال في موضع آخر:أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [العنكبوت: 2] وكلمة { عَبَثاً.. } [المؤمنون: 115] العَبَث هو الفعل الذي لا غايةَ له ولا فائدةَ منه، كما تقول: فيم تعبث؟ لمن يفعل فِعْلاً لا جدوى منه، وغير العبث نقول: الجد ونقول: اللعب واللهو، كلها أفعال في حركات الحياة. لكن الجد: هو أن تعمل العمل لغاية مرسومة. أما اللعب فهو أن تعمل عملاً هو في واقع الأمر لا غاية له الآن إلا دُرْبتك أنت على الحركة وشُغْل ملكاتك حتى لا تتوجه إلى فساد شيء أو الإضرار بشيء، كما تشتري لولدك لعبة يلهو بها، وينشغل بها عن الأشياء القيِّمة في المنزل، والتي إنْ لعب بها حطّمها، فأنت تصرف حركاته إلى شيء لتمنعه عن أشياء ضارة، أو تُعلِّمه باللعب شيئاً يفيده فيما بعد، كالسباحة أو ركوب الخيل. واللهو كاللعب في أنه يكون لغاية قد تأتي بعد، أو لغاية تنفي ضرراً، إلا أن اللعب حين تزاوله لا يشغلك عن مطلوب، أما اللهو فهو الذي يشغلك عن مطلوب، فمثلاً الطفل دون السابعة يلعب في أوقات الصلاة، فيُسمّى فعله لعباً، فإنْ كان في العاشرة يُسمَّي فِعْله لَهْواً لأنه شغله عن الصلاة، وهي واجبة عليه. واللعب يُدربك على أشياء قد تحتاجها وقت الجد فتكون سهلة عليك، أما العبث فلا فائدةَ منه، لذلك قال سبحانه: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً.. } [المؤمنون: 115] فنفى أن يكون الخَلْق عبثاً بلا غاية لأن الله تعالى خلق الخَلْق لغاية مرسومة، ووضع لهم منهجاً يحدد هذه الغاية، ولا يضع المنهج للخَلْق إلا الخالق. كما قلنا سابقاً: إن الصانع الذي صنع هذا الميكروفون لم يصنعه ثم طلب منا أن نبحث له عن مهمة، إنما قبْل أنْ يصنعه حدد له مهمته والغاية منه، وهي أن ينقل الصوت لمسافات بعيدة، إذن: فالغاية مرسومة بدايةً وقبل العمل. فالذي يحدد الغاية هو الصانع المبدع للشيء، وهو أيضاً الذي يحدد صلاح الصنعة لغايتها، ويحدد قانون صيانتها لتؤدي مهمتها على أكمل وجه، وأنت أيها الإنسان صنعة الله فَدَعْهُ يحدد لك غايتك، ويضع لك منهج حياتك وقانون صيانتك، بافعل كذا ولا تفعل كذا. إذن: فساد الدنيا يأتي من أن الصنعة تريد أن تأخذ حق الصانع في تحديد الغاية، وفي تحديد المنهج، وقانون الصيانة، وليس من مهمتها ذلك، والخالق حينما يحدد لك الغاية يضع لك المنهج الذي يُعينك على غايتك، إنما أنت: متى تستطيع أن تدرك الأشياء لتضع غاية أو تضع قانون الصيانة؟ إنك لا يمكن أن تبلغ هذا المبلغ قبل سِنِّ العشرين على أحسن تقدير، فمَنْ - إذن - يضع لك غايتك وقانون صيانتك قبل هذه السنِّ؟ لا أحدَ غير خالقك عز وجل، ولن يستقيم الحال إلا إذا تركنا الصَّنْعة للصانع غايةً ومنهجاً وصيانة.

السابقالتالي
2