الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ مَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }

يعني: هؤلاء الكفار الذين عبدوا من دون الله آلهة لا تستطيع أن تخلق ذباباً، ولا تستطيع حتى أنْ تردَّ من الذباب ما أخذه، هؤلاء ما عرفوا لله قَدْره، ولو عرفوا قَدْر الله ما عبدوا غيره. والقَدْر: يعني مقدار الشيء، وقلنا: إن مقادير الأشياء تختلف حسب ما تريده من معرفة المقادير، فالطول مثلاً له مقياس يُقَاس به مقدار الطول، لكن هذا المقياس يختلف باختلاف المقيس، فإنْ أردتَ أنْ تقيسَ المسافة بين القاهرة والأسكندرية مثلاً لا تستخدم المللي أو السنتيمتر ولا حتى المتر، إنما تستخدم الكيلومتر، فإنْ أردت شراء قطعة من القماش تقول متر، أما إنْ أردتَ صورة شخصية تقول سنتيمتر. إذن: لكل شيء مقدار يُقدَّر به، ومعيار يُقاس به، فإنْ أردتَ المسافة تقيس الطول، فإنْ أردت المساحة تقيس الطول في العرض، فإنْ أردتَ الحجم تقيس الطول في العرض في الارتفاع، الطول بالمتر والمساحة بالمتر المربع، والحجم بالمتر المكعب. كذلك في الوزن تُقدِّره بالكيلو أو الرطل أو الجرام.. إلخ. وقدر تأتي بمعنى: ضيَّق، كما جاء في قوله تعالى:وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ.. } [الفجر: 16]. ويقول الحق سبحانه وتعالى:وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ ٱللَّهُ.. } [الطلاق: 7]. والمقدار كما يكون في الماديات يكون أيضاً في المعنويات، فمثلاً تعبر عن الزيادة المادية تقول: فلان كبر يعني شَبَّ وزاد، أما في المعنويات فيقول الحق سبحانه: كَبُركَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ.. } [الكهف: 5] يعني: عَظُمتْ. والحق - تبارك وتعالى - ليس مادة لأنه سبحانه فوق المادة، فمعنى المقدار في حقه تعالى عظمته في صفات الكمال فيه { مَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.. } [الحج: 74] ما عظّموه حَقَّ التعظيم الذي ينبغي له، وما عرفوا قَدْره، ولو عرفوا ما عبدوا غيره، ولا عبدوا أحداً معه من هذه الآلهة التي لا تخلق ذباباً، ولا حتى تسترد ما أخذه منهم الذباب، فكيف يُسَوُّون هؤلاء بالله ويقارنونهم به عز وجل؟ إنهم لو عرفوا لله تعالى قَدْره لاستحيوا من ذلك كله. ثم تُذيَّل الآية بقوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج: 74] فما مناسبة هاتين الصفتين للسياق الذي نحن بصدده؟ قالوا: لأن الحق - سبحانه وتعالى - تكلَّم في المثَل السابق عَمَّنْ انصرفوا عن عبادته سبحانه إلى عبادة الأصنام وقال:ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلْمَطْلُوبُ } [الحج: 73] فقال في مقابل هذا الضعف إن الله لقويُّ، قوة عن العابد لأنه ليس في حاجة إلى عبادته، وقوة عن المعبود لأنه لو شاء حَطَّمه، وما دُمْتم انصرفتم عن الله وعبدتم غيره، فهذا فيه مُضارَّة، وكأن هناك معركة، فإنْ كان كذلك فالله عزيز لا يغالب. والآية: { مَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.

السابقالتالي
2