الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّ ذٰلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ }

هذه قضية حكم بها الحق سبحانة لنفسه، ولم يدَّعِها أحد، فلا يعلم ما في السماء والأرض إلا الله، وهذه الآية جاءت بعد الحكم في المنازعة فربما اعترض أحد وقال: ما دام الأمر من الله أحكاماً تنظم حركة الحياة وقد جاء كل رسول بها، فما ضرورة أنْ يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس كافة. وقلنا: إن الدين نوعان: نوع لا يختلف باختلاف الرسل والأمم والعصور، وهذا في القضايا العامة الشاملة التي لا تتغير، وهي العقائد والأصول والأخلاق، ونوع آخر يختلف باختلاف العصور والأمم، فيأتي الحكم مناسباً لكل عصر، ولكل أمة. وما دام الحق سبحانه هو الذي سيحكم بين الطرفين قال: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ.. } [الحج: 70] أعلم كل شيء كائن في الوجود ظاهره وباطنه، فأنا أحكُم عن علم وعن خبرة. { إِنَّ ذٰلِكَ فِي كِتَابٍ.. } [الحج: 70] والعلم شيء، والكتاب شيء آخر، فما دام الله تعالى يعلم كل شيء، وما دام سبحانه لا يضل ولا ينسى، فما ضرورة الكتاب؟ قالوا: الكتاب يعني به اللوح المحفوظ الذي يحوي كل شيء. وفي آية أخرى قال:كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ * فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ } [عبس: 11-15]. حتى القرآن نفسه في ذلك الكتاب:بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } [البروج: 21-22]. وقال تعالى:يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَابِ } [الرعد: 39] ويقول تعالى:وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ ٱلأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [الأنعام: 59]. فضرورة الكتاب ليدلّك وليدلّ الملائكة المطَّلعين على أن الأشياء التي تحدث مستقبلاً كتبها الله أزلاً، فمجيئها في المستقبل على وَفْق ما كتبه دليل علمه سبحانه بها، فالذي كتب الشيء قبل أنْ يكون، ثم جاء الشيء موافقاً لما أكبر دليل على عِلْمه وإحاطته. إذن: مجيء الكتاب لا ليساعدنا على شيء، إنما ليكون حُجَّة عليك، فيقال لك:ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [الإسراء: 14] ها هو تاريخك، وها هي قصتك، ليس كلاماً من عندنا، وإنما فعلْك والحجة عليك. وعِلْم الله تعالى في قوله: { يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ.. } [الحج: 70] يحمل الوعد والوعيد في وقت واحد، وهذا من عجائب الأداء القرآني، أنْ يعطي الشيء ونقيضه، كيف؟ هَبْ أن عندك ولديْن اعتدى أحدهما على الآخر في غَيبتك، فلما عُدْتَ أسرعا بالشكوى، كل من صاحبه، فقلتَ لهما: اسكتا لا أسمع لكما صوتاً. وقد عرفت ما حدث وسأرتب لكل منكما ما يناسبه وما يستحقه على وَفْق ما علمت، لا شكَّ عندها أن المظلوم سيفرح ويستبشر، وأن الظالم سيخاف ويتغير لونه. إذن: فعلم الله بكل شيء في السماء والأرض وإحاطته سبحانه بما يجري بين خَلْقه وَعْد للمحق، ووعيد للمبطل. ثم يقول الحق سبحانه: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً... }.