الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ ذٰلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ }

{ ذٰلِكَ } يعني: هذا الأمر الذي تحدثنا فيه قد استقر، وإليك هذا الكلام الجديد { وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ.. } [الحج: 60]. الحق - سبحانه وتعالى - خلق الإنسان وجعل فيه ملكات مختلفة ليؤدي خلافته في الأرض بحركات متوازنة، فخلق لنا عواطف وجعل لها مهمة، هذه العواطف لا يحكمها قانون. وخلق لنا أيضاً غرائز ولها مهمة، لكن محكومة بقانون تعلية الغرائز عند الخلق، فإياك أنْ تتعدى بغريزتك إلى غير المهمة التي خلقها الله لها. فمثلاً، غريزة حب الطعام جعلها الله فيك لاستبقاء الحياة، فلا تجعلها غرضاً أصيلاً لذاتها، فتأكل لمجرد أنْ تلتذَّ بالأكل لأنها لذة وقتية تعقبها آلام ومتاعب طويلة. وهذه الغريزة جعلها الله في النفس البشرية منضبطة تماماً كما تضبط المنبّة مثلاً، فحين تجوع تجد نفسك تاقتْ للطعام وطلبته، وإنْ عطشتْ مالتْ نفسك نحو الماء، وكأن بداخلك جرساً يُنبِّهك إلى ما تحتاجه بنيتك من مُقوِّمات استبقائها. حب الاستطلاع غريزة جعلها الله فيك لتنظر بها وتستطلع ما في الكون من أسرار دالة على قدرة الله وعظمته، فلا تتعدى هذا الغرض، ولا تحرِّك هذه الغريزة إلى التجسُّس على الخَلْق والوقوف على أسرارهم. التناسل غريزة جعلها الله لحِفْظ النوع، فلا ينبغي أنْ تتعدى ما جعلت له إلى ما حرَّم الله. الغضب غريزة وانفعال قَسْري لا تختاره بعقلك تغضب أو لا تغضب، إنما إنْ تعرضتَ لأسبابه فلا تملك إلا أنْ تغضب، ومع ذلك جعل له حدوداً وقنَّن له وأمر فيه بضبط النفس وعدم النزوع. الحب والكُرْه غريزة وعاطفة لا تخضع لقانون، ولا يحكمها العقل، فلك أن تحب وأن تكره، لكن إياك أنْ تتعدَّى هذه العاطفة إلى عمل عقليٍّ ونزوع تعتدي به أو تظلم. لذلك يقول تعالى:وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ.. } [المائدة: 8]. لأن هذه المسألة لا يحكمها قانون، وليس بيدك الحب أو الكره لذلك لما قابل سيدنا عمر قاتل أخيه قال له عمر: أَدِرْ وجهك عني فإنِّي لا أحبك. وكان الرجل عاقلاً فقال لسيدنا عمر: أَوَ عَدمُ حبك لي يمنعني حقاً من حقوقي؟ قال عمر: لا، فقال الرجل: إنما يبكي على الحب النساء. يعني أحِبّ أو اكره كما شِئْتَ، لكن لا تتعدَّ ولا تحرمني حقاً من حقوقي. فهل وقفنا بالغرائز عند حدودها وأهدافها؟ لو تأملتَ مثلاً الغريزة الجنسية التي يصِفُها البعض بِمْلء فيه يقول: غريزة بهيمية.. سبحان الله أَلاَ تستحي أنْ تظلم البهائم لمجرد أنها لا تتكلّم، وهي أفهم لهذه الغريزة منك، أَلاَ تراها بمجرد أن يُخصِّب الذكَر أُنثاه لا يقربها أبداً، وهي لا تمكِّنه من نفسها إذا ما حملَتْ، في حين أنك تبالغ في هذه الغريزة، وتنطلق فيها انطلاقاً يُخرِجها عن هدفها والحكمة منها؟ على مثل هذا أن يخزى أن يقول مثل هذه المقولة، وألاَّ يظلم البهائم، فمن الناس مَنْ هم أَدنْى من البهائم بكثير.

السابقالتالي
2 3