الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ }

أمر الله نبيه إبراهيم بعد أنْ رفع القواعد من البيت أنْ يُؤذِّن في الناس بالحج، لماذا؟ لأن البيت بيت الله، والخَلْق جميعاً خَلْق الله، فلماذا تقتصر رؤية البيت على مَنْ قُدِّر له أنْ يمرّ به، أو يعيش إلى جواره؟ فأراد الحق - سبحانه وتعالى - أنْ يُشيع هذه الميْزة بين خَلْقه جميعاً، فيذْهبوا لرؤية بيت ربهم، وإنْ كانت المساجد كلها بيوت الله، إلا أن هذا البيت بالذات هو بيت الله باختيار الله لذلك جعله قبْلة لبيوته التي اختارها الخَلْق. إن من علامات الولاء بين الناس أنْ نزور قصور العظماء وعِلْية القوم، ثم يُسجل الزائر اسمه في سِجلِّ الزيارات، ويرى في ذلك شرفاً ورِفْعة، فما بالك ببيت الله، كيف تقتصر زيارته ورؤيته على أهله والمجاورين له أو مَنْ قُدِّر لهم المرور به؟ ومعنى { أَذِّن.. } [الحج: 27] الأذان: العلم، وأول وسائل العلم السماع بالأذن، ومن الأذن أُخذ الأذان. أي: الإعلام. ومن هذه المادة قوله تعالى:وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ.. } [إبراهيم: 7] أي: أعلم لأن الأذن وسيلة السماع الأولى، والخطاب المبدئي الذي نتعلَّم به لذلك قبل أنْ تتكلَّم لا بُدَّ أنْ تسمع. وحينما أمر الله إبراهيم بالأذان لم يكُن حول البيت غير إبراهيم وولده وزوجته، فلمَنْ يُؤذِّن؟ ومَنْ سيستمع في صحراء واسعة شاسعة وواد غير مسكون؟ فناداه ربه: " يا إبراهيم عليك الأذان وعلينا البلاغ ". مهمتك أنْ ترفَع صوتك بالأذان، وعلينا إيصال هذا النداء إلى كل الناس، في كل الزمان، وفي كل المكان، سيسمعه البشر جميعاً، وهم في عالم الذَّرِّ وفي أصلاب آبائهم بقدرة الله تعالى الذي قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ.. } [الأنفال: 17]. يعني: أَدِّ ما عليك، واترك ما فوق قدرتك لقدرة ربك. فأذَّنَ إبراهيم في الناس بالحج، ووصل النداء إلى البشر جميعاً، وإلى أن تقوم الساعة، فَمنْ أجاب ولَبَّى: لبيك اللهم لبيك كُتِبَتْ له حَجَّة، حتى إن من العلماء من قال: مَنْ لبَّى مرة كُتِبَتْ له حجة، ومَنْ لبَّى مرتين كتِبت له حجَّتيْن وهكذا، لأن معنى لبيك: إجابةً لك بعد إجابة. فإنْ قُلْتَ: إن مطالب الله وأوامره كثيرة، فلماذا أخذ الحج بالذات هذه المكانة؟ نقول: أركان الإسلام تبدأ بالشهادتين: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصوم، ثم الحج، لو نظرتَ إلى هذه الأركان لوجدتَ أن الحج هو الركن الوحيد الذي يجتهد المسلم في أدائه وإنْ لم يكُن مستطيعاً له فتراه يوفر ويقتصد حتى من قُوته، وربما حرمَ نفسه لِيُؤدِّي فريضة الحج، ولا يحدث هذا ولا يتكلفه الإنسان إلا في هذه الفريضة، لماذا؟ قالوا: لأن الله تعالى حكم في هذه المسألة فقال: أَذِّن - يأتوكَ، هكذا رَغْماً عنهم، ودون اختيارهم، أَلاَ ترى الناس ينجذبون لأداء هذه الفريضة، وكأن قوة خارجة عنهم تجذبهم.

السابقالتالي
2 3