الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ }

" ذو النون ": هو سيدنا يونس بن متى صاحب الحوت، والنون من أسماء الحوت، وجمعه نينان كحوت وحيتان لذلك سُمِّيَ به، وقد أُرسل يونس عليه السلام إلى أهلنِينَوىَ من أرض الموصل بالعراق. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعداس: " أنت من بلد النبي الصالح: يونس ابن متّى ". والنون أيضاً اسم لحرف من حروف المعجم، لكن قد يوافق اسمُ الحرف اسماً لشيء آخر، كما في ق وهو اسم جبل، وكذلك السين، فهناك نهر اسمه نهر السين، وهكذا تصادف أسماء الحروف أسماء أشياء. وقوله تعالى: { إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً.. } [الأنبياء: 87] مادة غضب نأخذ منها الوصف للمفرد. نقول: غاضب وغضبان، أمّا مغاضب فتعطي معنى آخر لأنها تدل على المفاعلة، فلا بُدَّ أن أمامك شخصاً آخر، أنت غاضب وهو غاضب، مثل: شارك فلان فلاناً. لكن في أصول اللغة رجحنا جانب الفاعلية في أحدهما، والمفعُولية في الآخر، كما نقول: شارك زيدٌ عَمْراً، فالمشاركة حدثتْ منهما معاً، لكن جانب الفاعلية أزيد من ناحية زيد، فكلُّ واحد منهما فاعل مرة ومفعول أخرى. واللغة أحياناً تلحظ هذه المشاركة فتُحمِّل اللفظ المعنيين معاً: الفاعل والمفعول، كما جاء في قَوْل الشاعر العربي الذي يصف السير في أرض معقربة، والتي إذا سِرْت فيها دون أنْ تتعرض للعقارب فإنها تسالمك ولا تؤذيك، فيقول:
قَدْ سَالَم الحياتُ مِنْه القَدَمَا   الأفْعُوانَ والشُّجاعَ القَشْعَمَا
أي: أنه سَالَم الحيات، فالحيات سالمتْه، فالمسالمة منهما معاً، لكن غلب جانب الحيات فجاءت فاعلاً لأن إيذاءَها أقوى من إيذائه، فلما أبدل من الحيات الأفعوان والشجاع القشعما وهما من أسماء الحيات كان عليه أنْ يأتي بالبدل مرفوعاً تابعاً للمبدل منه، إلا أنه نصبه فقال: الأُفْعَوانَ والشجاعَ القشعمَا لأنه لاحظ في جانب الحيات أنها أيضاً مفعولٌ. فَمِمَّ غضب ذو النون؟ غضب لأن قومه كذبوه، فتوعدهم إنْ لم يتوبوا أنْ يُنزِل بهم العذاب، وأتى الموعد ولم ينزل بهم ما توعدهم به، فخاف أنْ يُكذِّبوه، وأن يتجرَّأَوا عليه، فخرج من بينهم مغاضباً إلى مكان آخر، وهو لا يعلم أنهم تابوا فأخّر الله عذابهم، وأجّل عقوبتهم. وفي آية أخرى يُوضِّح الحق سبحانه هذا الموقف:فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْيِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ } [يونس: 98]. أي: لم يحدث قبل ذلك أنْ آمنتْ قرية ونفعها إيمانها إلا قرية واحدة هي قوم يونس، فقد آمنوا وتابوا فأجّل الله عذابهم. إذن: خرج يونس مُغاضِباً لا غاضباً لأن قومه شاركوه، وكانوا سبب غضبه، كما حدث في مسألة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فرسول الله هاجر من مكة لكنه لم يهْجرهَا، فسُمِّيَتْ هجرة لأن أهل مكة هجروا رسول الله أولاً، وهجروا دعوته وألجئوه أيضاً إلى الهجرة وتَرْك مكة، فهم طرف في الهجرة وسببٌ لها.

السابقالتالي
2