الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنَ ٱلشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذٰلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ }

فبعد أنْ سخَّر الله له الريح سخَّر له الشياطين { يَغُوصُونَ لَهُ.. } [الأنبياء: 82] والغَوْصُ: النزول إلى أعماق البحر ليأتوه بكنوزه ونفائسه وعجائبه التي ادخرها الله فيه { وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذٰلِكَ.. } [الأنبياء: 82] أي: مما يُكلِّفهم به سليمان من أعمال شاقة لا يقدر عليها الإنسان، وقد شرحت هذه الآية في موضع آخر:يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ.. } [سبأ: 13] فأدخل مرادات العمل في مشيئته. والمحاريب جمع محراب، وهو مكان العبادة كالقِبْلة مثلاً، والجِفَان: جمع جَفْنة، وهي القَصْعة الكبيرة الواسعة التي تكفي لعدد كبير، والقدور الراسيات أي: الثابتة التي لا تنقل من مكان لآخر وهي مبنية. وقد رأينا شيئاً من هذا في الرياض أيام الملك عبد العزيز رحمه الله، وكان هذا القدْر من الاتساع والارتفاع بحيث إذا وقف الإنسان ماداً ذراعيه إلى أعلى لا يبلغ طولها، وفي الجاهلية أشتهرت مثل هذه القدور عند ابن جدعان، وعند مطعم بن عدي. أما التماثيل فهي معروفة، والموقف منها واضح منذ زمن إبراهيم عليه السلام حينما كسَّرها ونهى عن عبادتها، وهذا يردُّ قول مَنْ قال بأن التماثيل كانت حلالاً، ثم فُتِن الناس فيها، فعبدوها من دون الله فَحرِّمت، إذن: كيف نخرج من هذا الموقف؟ وكيف يمتنّ الله على نبيه سليمان أن سخر له من يعملون التماثيل وهي مُحرَّمة؟ نقول: كانوا يصنعون له التماثيل لا لغرض التعظيم والعبادة، إنما على هيئة الإهانة والتحقير، كأن يجعلوها على هيئة رجل جبار، أو أسد ضخم يحمل جزءاً من القصر أو شرفة من شرفاته، أو يُصوِّرونها تحمل مائدة الطعام.. الخ. أي أنها ليست على سبيل التقديس. ثم يقول تعالى: { وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ } [الأنبياء: 82] حافظين للناس المعاصرين لهذه الأعمال حتى لا تؤذيهم الشياطين أو تفزعهم، ومعلوم أن الشياطين يروْنَ البشر، والبشر لا يرَوْنَهم، كما قال تعالى:إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ.. } [الأعراف: 27]. أما سليمان عليه السلام فكان يرى الجنَّ ويراقبهم وهم يعملون له، وفي قصته:فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ.. } [سبأ: 14]. وفي هذا دليل على أن الجن لا يعلمون الغيب لذلك قال تعالى:فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ } [سبأ: 14]. ويُقال: إن سليمان - عليه السلام - بعد أنْ امتنَّ الله عليه، وأعطاه مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده، أخذ هؤلاء الجن وحبسهم في القماقم حتى لا يعملوا لأحد غيره. هذه مجرد لقطة من قصة سليمان، ينتقل السياق منها إلى أيوب عليه السلام: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ... }.