الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ ٱلْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ }

يريد الحق - تبارك وتعالى - أن يُسلِّي رسوله صلى الله عليه وسلم ويُخفِّف عنه مَا لاقاه من قومه، فيذكر له نماذج من إخوانه أُولِي العزم من الرسل الذين اضطهدهم أقوامهم، وآذوهم ليُسهِّل على رسول الله مهمته، فلا يصده إيذاء قومه عن غايته نحو ربه. فبدأ بموسى - عليه السلام - لأنه من أكثر الرسل الذين تعبوا في دعوتهم، فقد تعب موسى مع المؤمنين به فضلاً عن الكافرين به، فقال سبحانه: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ ٱلْفُرْقَانَ.. } [الأنبياء: 48] لأن رسالتهما واحدة، وهم فيها شركاء:وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً.. } [القصص: 34] وقال:ٱشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِيۤ أَمْرِي } [طه: 31-32]. والفرقان: هو الفارق القوي بين شيئين لأن الزيادة في المبنى تدل على زيادة في المعنى، كما تقول: غفر الله لفلان غفراناً، وتقول: قرأت قراءة، وقرأت قرآناً، فليست القراءة واحدة، ولا كل كتاب يُقرأ. والفرقان من أسماء القرآن:تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [الفرقان: 1]. فالفرقان - إذن - مصدر يدلُّ على المبالغة، تقول: فرَّق تفريقاً وفرقاناً، فزيادة الألف والنون تدل على زيادة في المعنى، وأن الفَرْق في هذه المسألة فَرْق جليل وفَرْق واضح لأن كونك تُفرِّق بين شيئين الأمر بينهما هَيِّن تسمى هذا فَرْقاً، أمّا أن تفرق بين شيئين يترتب على ذلك خطورة في تكوين المجتمع وخطورة في حركة الحياة، فهذا فرقان لذلك سَمَّى القرآن فرقاناً لأنه يُفرِّق بين الحق والباطل. ومن الفرقان، قوله تعالى:يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً.. } [الأنفال: 29] وتقوى الله لا تكون إلا بتنفيذ أوامره وتعاليمه الواردة في القرآن الذي نزل على محمد، والفرقان هنا يعني: نور تُفَرِّق به بين الأشياء وتُميِّز به بين المتشابهات. وعلى قَدْر ما تتقي الله باتباع الفرقان الأول يجعل لكم الفرقان الثاني، وتتكوَّن لديكم فراسة المؤمن وبصيرته، وتنزل عليكم الإشراقات التي تُسعِف المؤمن عندما يقع في مأزق. ألاَ تراهم يقولون: فلان ذكي، فلان حاضر البديهة. أي: يستحضر الأشياء البعيدة وينتفع بها في الوقت الحاضر، وهذا من توفيق الله له، ونتيجة لبصيرته وفراسته، وكانت العرب تضرب المثل في الفراسة والذكاء بإياس بن معاوية حتى قال الشاعر:
إقْدامُ عَمْروٍ في سَمَاحَةِ حَاتِمِ   في حِلْمِ أَحنَفَ في ذَكَاءِ إيَاسِ
ويُرْوَى أن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور لما أراد أنْ يحج بيت الله في آخر مرة، بلغه أن سفيان الثوري يتناوله وينتقده ويتهمه بالجور، فقال: سوف أحج هذا العام، وأريد أنْ أراه مصلوباً في مكة، فبلغ الخبر أهل مكة، وكان سفيان الثوري يقيم بها في جماعة من أصحابه من المتصوفة وأهل الإيمان، منهم سفيان بن عيينة والفضيل بن عياض، وكانا يُدلِّلان الثوري ويعتزان به.

السابقالتالي
2 3