الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِٱلْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ ٱلصُّمُّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ }

أي: أن رسول الله ما أبلغكم بشيء من عند نفسه، إنما كل ما جاء به من وعد ووعيد فهو من عند الله، وأنتم أنفسكم تؤكدون على بشريته، نعم هو بشر لا يعلم شيئاً كما تقولون، وهذه تُحسَب له لا عليه، إنما ربه يوحي إليه. فلو قال محمد: إنما أنذركم.. لكان لكم حق أنْ تتشكَّكوا، إنما القائل هو الله، وأنا مجرد مُبلِّغ عن الله الذي يملك أعِنَّة الأحداث، فإذا قال بوجود حدث فلا بُدَّ أنْ يقع. ثم يقول تعالى: { وَلاَ يَسْمَعُ ٱلصُّمُّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ } [الأنبياء: 45] وحاسّة السمع هي أول معلوميات الإنسان، وأول حواسه عملاً، وقبل أن يتكلم الطفل لا بُدَّ أنْ يسمع أولاً، لينطق ما سمعه لأن السمع هو الإدراك الأول المصاحب لتكوين الإدراكات، والأذن - كما قلنا - تسبق العين في أداء مهمتها. لذلك قدّمه الحق سبحانه، فقال:إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [الإسراء: 36]. والسمع هو الآلة التي لا تتعطّل عن مهمتها، حتى ولو كان الإنسان نائماً لأن به يتم الاستدعاء لذلك لما أراد الحق سبحانه أنْ يُنيم أهل الكهف هذه المدة الطويلة ضرب على آذانهم، وعطّل عندهم حاسة السمع حتى لا تُزعجهم أصوات الطبيعة خارج الغار، فقال:فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي ٱلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً } [الكهف: 11]. ومعنى: { وَلاَ يَسْمَعُ ٱلصُّمُّ ٱلدُّعَآءَ.. } [الأنبياء: 45] صحيح أنهم يسمعون، وآلة السمع عندهم صالحة للعمل، إلا أنه سماعٌ لا فائدة منه، ففائدة السمع أنْ تستجيب لمن يُحدِّثك، فإذا لم تستجِبْ فكأنك لم تسمع، وإذا أمرت العامل مثلاً بشيء فتغافل عنه تقول له: أأنت أطرش؟ ولذلك سماهم القرآن: صُماً. وقوله تعالى: { إِذَا مَا يُنذَرُونَ } [الأنبياء: 45] أي: لَيْتهم يتغافلون عن نداء عادي، إنما يتغافلون وينصرفون { إِذَا مَا يُنذَرُونَ } [الأنبياء: 45] حين يُخوِّفهم عذاب الله، والإنذار والتحذير أَوْلَى ما يجب على الإنسان الاهتمام به، ففيه مصلحته، ومن الغباء ألاَّ يهتم به، كما لو أنذرتَ إنساناً وحذَّرْتَه من مخاطر طريق، وأن فيه ذئاباً أو أُسُوداً أو ثعابين أو قطاعَ طريق، فلا يهتم بكلامك، ولا يحتاط للنجاة بنفسه. وقلنا: إن الإنذار: أنْ تخبر بشرٍّ قبل أوانه ليستعد لتلافيه، لا أنْ تنذره ساعة الحادث فلا يجد فرصة. إذن: المسألة ليست طبيعة في التكوين، إنما توجيه إدراكات، كأنْ تكلِّم شخصاً في أمر لا يعجبه، فتجده " أذن من طين، وأذن من عجين " ينصرف عنك كأنه لم يسمع شيئاً، كأحدهم لما قال لصاحبه: فيك مَنْ يكتم السر؟ قال: نعم سِرُّك في بير، قال: أعطني عشرة جنيهات، فردَّ عليه: كأنِّي لم أسمع شيئاً!!! ثم يقول الحق سبحانه: { وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ... }.