الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ }

والاقتراب: إما أن يكون زمناً أو مكاناً، فإذا كانت المسألة في مسافات قلنا: اقترب للناس حسابهم يعني مكانه. وإذا كانت للزمن قلنا: اقترب زمنه. فالاقتراب: دُنُو الحدث من ظرفية زماناً أو مكاناً. والحق سبحانه حينما يُعبِّر بالماضي { ٱقْتَرَبَ.. } [الأنبياء: 1] يدل على أن ذلك أمر لازم وسيحدث ولا بُدَّ، والبشر حينما يتحدثون عن أمر مقبل يقولون: يقترب لا اقتربَ لأن اقتربَ هكذا بالجزم والحكم بأنه حدثَ فعلاً لا يقولها إلا الله الذي يملك الأحداث ويقدر عليها، أما الإنسان فلا يملك الأحداث، ولا يستطيع الحكم على شيء لا يملكه بعد أن يتلفظ بهذا اللفظ. ومثال ذلك في قوله تعالى:أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ.. } [النحل: 1] فلا يُقال لك: لا تستعجل شيئاً إلا إذا كان لم يحدث بَعْد: فكيف - إذن - جمع بين الماضيأَتَىٰ.. } [النحل: 1] والمستقبلفَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ.. } [النحل: 1]؟ قالوا: أنت ممنوع أن تحكم بمُضيٍّ على أمر مستقبل لأنك لا تملك نفسك، ولا تملك ظروف المستقبل، كما في قوله تعالى:وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ.. } [الكهف: 23-24]. لا بُدَّ أن تُردف هذا القول بالمشيئة لأن قولك " سأفعل ذلك غداً " قضيةٌ لها عناصر: الفاعل أنت والمفعول به والزمن غداً، والسبب الذي يدعوك للفعل والقدرة التي تُعينك أن تفعل. وهذه كلها عناصر لا تملك أنت شيئاً منها، وربما جاء غَدٌ فتغيَّر عنصر من هذه العناصر، وحال بينك وبين ما تريد، فينبغي أن تُبرِّيء نفسك من احتمال الكذب فتقول: إن شاء الله وتردُّ الأمر إلى القادر عليه الذي يملك كل هذه العناصر، وكأن ربك يُعلِّمك ألا تكون كاذباًَ. لذلك نجد أن اللغة قد راعتْ قدرة المتكلم، ووضعتْ له الزمن المناسب، فإنْ علمتَ حدوث الفعل قُلْ بالماضي: حضر فلان، انتهت القضية، فإنْ علمتَ أنه توجه للحضور واستعدَّ له قُلْ: سيحضر فلان أي قريباً، أو سوف يحضر أي: بعد ذلك. هذا الذي يناسب قدرة البشر. أما الحق سبحانه فيملك زمام الأشياء وتوجيهها، وكلّ شيء مرهون بأمره التكويني، فإنْ قال للأمر المستقبل: أتى أو اقترب فصدِّق لأنه لا شيء يُخرِج الأمر عن مراده تعالى، وهو وحده الذي يملك الانفعال لكلمة كُنْ، فإنْ قالها فَقد انتهتْ المسألة. لذلك يقول سبحانه: { ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ.. } [الأنبياء: 1] بصيغة الماضي ولم يقل: يقترب أو سيقترب لأن المتكلم هو الله. وقد ورد الماضي اقترب أيضاً في قوله تعالى:ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ } [القمر: 1]. وفي قوله تعالىوَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب } [العلق: 19] فاقترب غير قَرُب، قرُب: يعني دنا، أما اقترب أي: دنا جداً حتى صار قريباً منك. والحساب: كلمة تُطلَق إطلاقات عِدّة، فالحساب أنْ تحسب الشيء بالأعداد جمعاً، أو طرحاً، أو ضَرْباً، وتدير حصيلة لك أو عليك، فإنْ كانت لك فأنت دائن، وإنْ كانت عليك فأنت مدين.

السابقالتالي
2 3 4