الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَىٰ }

طبيعي أن يشتاط فرعون غضباً بعدما سمعه من سحرته، فقد جمعهم لينصروه فإذا بهم يخذلونه، بل ويُقوِّضون عرشه من أساسه فيؤمنون بإله غيره، ويا ليتهم لما خذلوه سكتوا، إنما يعلنونها صريحة عالية مدوية:آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ } [طه: 70]. { قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ... } [طه: 71] فمع الخيبة التي مُنِي بها ما يزال يتمسك بفرعونيته وألوهيته، ويهرب من الاستخزاء الذي حاق به، يريد أن يعطي للقوم صورة المتماسك الذي لم تُؤثّر فيه هذه الأحداث، فقال { قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ.. } [طه: 71] فأنا كبيركم الذي علّمكم السحر، وكان عليكم أنْ تحترموا أستاذيته، وقد كنت سآذنُ لكم. وكلمة آمنتم مادتها: أمِنَ. وقد أخذت حيزاً كبيراً في القرآن الكريم، والأصل فيها: أمِنَ فلان آمناً يعني: اطمأن. فليس هناك ما يُخوّفه. لكن هذه المادة تأتي مرة ثلاثية أَمِنَ وتأتي مزيدة بالهمزة آمن. وهذا الفعل يأتي متعدياً إلى المفعول مباشرة، كما في قوله تعالىفَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ * ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [قريش: 3-4] يعني: آمن سكان مكة من الخوف. وقد يتعدى بالباء كما في: آمنت بالله، أو يتعدى باللام كما في قوله تعالى:فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ.. } [يونس: 83] وآمن له يعني: صدَّقه فيما جاء به. إذن: لدينا: آمَنَهُ يعني أعطاه الأمن، وآمن به: يعني اعتقده، وآمن له: يعني صَدَّقه. وقد تأتي أَمن وآمن بمعنى واحد، كما في قول سيدنا يعقوب:هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِن قَبْلُ.. } [يوسف: 64]. فلماذا اختلفت الصيغة من آمن إلى أَمِن؟ قالوا: لأن قولهكَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِن قَبْلُ.. } [يوسف: 64] كانت تجربة أولى، فجاء الفعل أَمن مُجرّداً على خلاف الحال في المرة الثانية، فقد احتاجت إلى نوع من الاحتياط للأمر، فقالهَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ.. } [يوسف: 64] فزاد الهمزة للاحتياط. فمعنى قول فرعون: { آمَنتُمْ لَهُ.. } [طه: 71] يعني أي: صدَّقتموه. وتأمل هنا بلاغة القرآن في هذا التعبير { قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ.. } [طه: 71] ومَنِ الذي يقولها؟ إنه فرعون الآمر الناهي في قومه يتحدث الآن عن الإذن. وفَرْق بين أمر وأذن، أمر بالشيء يعني: أنه يحب ما أمر به، ويجب عليك أنت التنفيذ. أما الإذن فقد يكون في أمر لا يحبه ولا يريده، فهو الآن يأذن لأنه لا يقدر على الأمر. وما دُمْتُمْ قد آمنتم له قبل أن آذن لكم فلا بُدَّ أن يكون هو كبيركم الذي علّمكم السحر، فكان وفاؤكم له، واحترمتم هذا الكِبَر وساعدتموه على الفوز. وهذا من فرعون سوء تعليل لواقع الإيمان، ففي نظره أن موسى تفوّق عليهم، لا لأنه يُجيد فنَّ السحر أكثر منهم، إنما تفوّق عليهم لأنهم جاملوه وتواطأوا معه لأنه كبيرهم ومُعلِّمهم.

السابقالتالي
2