الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَىٰ }

تولى: أي: ترك موسى وانصرف ليُدبِّر شأنه { فَجَمَعَ كَيْدَهُ.. } [طه: 60] الكيد: التدبير الخفي للخَصْم، والتدبير الخفيّ هنا ليس دليلَ قوة، بل دليل ضَعْف لأنه لا قوةَ له على المجابهة الواضحة، مثل الذي يدسُّ السُّم للآخر لعدم قدرته على مواجهته. إذن: الكيد دليل ضَعْف لذلك نفهم من قوله تعالى عن النساء:إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [يوسف: 28] أنه ليس دليلاً على قوة المرأة، إنما دليلٌ على ضعفها، فكما أن كيدهُنّ عظيم، فكذلك ضعفُهن عظيم. فمعنى { فَجَمَعَ كَيْدَهُ.. } [طه: 60] أدار فِكْره على ألوان الكَيْد المختلفة، ليختار منها ما هو أنكَى لخَصْمه، كما جاء في آية أخرى في شَأْنِ نوح عليه السلامفَأَجْمِعُوۤاْ أَمْرَكُمْ.. } [يونس: 71]. وكأن الأمر الذي هو بصدده يتطلب وجهات نظر متعددة: نفعل كذا، أو نفعل كذا؟ ثم ينتهي من هذه المشاورة إلى رَأْي يجمع كل الاحتمالات، بحيث لا يفاجئه شيء بعد أنْ احتاط لكل الوجوه. فالمعنى: اتفِقُوا على الخطة الواضحة التي تُوحِّد آراءكم عند تحقيق الهدف. ومن ذلك قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام:وَأَجْمَعُوۤاْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ.. } [يوسف: 15]. أي: اتفقوا على هذا الرأي، وأجمعوا عليه، بعد أن قال أحدهمٱقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ ٱطْرَحُوهُ أَرْضاً.. } [يوسف: 9]، فكان الرأي النهائي أنْ يجعلوه في غيابة الجب. فهُمْ على آية حال سلالة نُبوة، لم يتأصل الشرُّ في طباعهم لذلك يتضاءل شرُّهم من القتل إلى الإلقاء في متاهات الأرض إلى أهْوَن هذه الأخطار، أنْ يُلْقوه في الجُبِّ، وهذه صفة الأخيار، أما الأشرار الذين تأصل الشر في نفوسهم وتعمّق، فشرُّهم يتزايد ويتنامى، فيقول أحدهم: أريد أنْ أقابل فلاناً، فأبصق في وجهه، أو أضربه، أو أُقطّعه، بل رصاصة تقضي عليه فيُصعِّد ما عنده من الشر. وبعد ذلك يرجُونَ له النجاة، فيقولون:يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ.. } [يوسف: 10]. ثم يقول تعالى في شأن فرعون: { ثُمَّ أَتَىٰ } [طه: 60] أي: أتى الموعد الذي سبق تحديده، مكاناً وزماناً. ثم يُحدِّثنا الحق سبحانه عن وقائع هذا اليوم، فيقول: { قَالَ لَهُمْ مُّوسَىٰ وَيْلَكُمْ... }.