الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ }

الشقاء: هو التعب والنَّصَب والكدّ، فالحق سبحانه ينفي عن رسوله صلى الله عليه وسلم التعب بسبب إنزال القرآن عليه، إذن: فما المقابل؟ المقابل: أنزلنا عليك القرآن لتسعد، تسعد أولاً بأن اصطفاك لأن تكون أَهْلاً لنزول القرآن عليك، وتسعد بأن تحمل نفسك أولاً على منهج الله وفِعْل الخير كل الخير. فلماذا - إذن - جاءتْ كلمة { لِتَشْقَىٰ } [طه: 2]؟. هذا كلام الكفار أمثال أبي جهل، ومُطعِم بن عدي، والنضر بن الحارث، والوليد بن المغيرة حينما ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له: لقد أشقيتَ نفسك بهذه الدعوة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله بعثني رحمة للعالمين ". فقد بعث رسول الله ليسعد ويسعد معه قومه والناس أجمعين لا ليشقى ويُشقِي معه الناس. لكن من أين جاء الكفار بمسألة الشقاء هذه؟ المؤمن لو نظر إلى منهج الله الذي نزل به القرآن لوجده يتدخل في إراداته واختياراته، ويقف أمام شهواته، فيأمره بما يكره وما يشقُّ على نفسه، ويمنعه مما يألَف ومما يحب. إذن: فمنهج الله ضد مرادات الاختيار، وهذا يُتعِب النفس ويشقُّ عليها إذا عُزِلَتْ الوسيلة عن غايتها، فنظرت إلى الدنيا والتكليف منفصلاً عن الآخرة والجزاء. أمّا المؤمن فيقرن بين الوسيلة والغاية، ويتعب في الدنيا على أمل الثواب في الآخرة، فيسعد بمنهج الله، لا يشقى به أبداً. كالتلميذ الذي يتحمل مشقّة الدرس والتحصيل لأنه يستحضر فَرْحة الفوز والنجاح آخر العام. من هنا رأى هؤلاء الكفار في منهج الله مشقة وتعباً، لأنهم عزلوا الوسيلة عن غايتها لذلك شعروا بالمشقة، في حين شعر المؤمنون بلذة العبادة ومتعة التكليف من الله، وهذه المسألة هي التي جعلتهم يتخذون آلهةً لا مطالبَ لها، ولا منهج، ولا تكليف، آلهة يعبدونها على هواهم، ويسيرون في ظلها على حَلِّ شعورهم. لذلك أوضح القرآن أنهم مغفلون في هذه المسألة، فقال: { مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ } [طه: 2]. أو يكون الشقاء: تعرُّضه لِعُتاة قريش وصناديدها الذين سخروا منه، وآذوه وسلَّطوا عليه سفهاءهم وصبيانهم، يشتمونه ويرمونه بالحجارة، وهو صلى الله عليه وسلم يُشقِي نفسه بدعوتهم والحرص على هدايتهم. والحق تبارك وتعالى ينفي الشقاء بهذا المعنى أيضاً: { مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ } [طه: 2] أي: لتُشقي نفسك معهم، إنما أنزلناه لتبلغهم فحسب، وقد تكرر هذا المعنى في القرآن كثيراً في مثل قوله تعالى:فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } [الكهف: 6] وقوله:إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [الشعراء: 4]. وسبق أنْ ضربنا لذلك مثلاً - ولله المثَل الأعلى - برجل عنده عبدان: ربط أحدهما إليه بحبل، وأطلق الآخر حُراً، فإذا ما دعاهما فاستجابا لأمره، فأيهما أطوع له، وأكثر احتراماً لأمره؟ لا شكَّ أنه الحر الطليق لأنه جاء مختاراً، في حين كان قادراً على العصيان.

السابقالتالي
2