الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاۤ أَنَاْ فَٱعْبُدْنِي وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِذِكْرِيۤ }

في الآية قبل السابقة خاطبه ربه:إِنِّيۤ أَنَاْ رَبُّكَ } [طه: 12] ليُطمئنه ويُؤنسه بأنه المربِّي العطوف، يعطي حتى للكافر الذي يعصاه، لكن هنا يخاطبه بقوله: { إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ } [طه: 14] أي: صاحب التكاليف، والمعبود المطاع في الأمر والنهي، وأوّل هذه التكاليف وقمّتها، والينبوع الذي يصدر عنه كل السلوك الإيماني: { إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاۤ أَنَاْ } [طه: 14]. لذلك قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: " خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله ". وما دام لا إله إلا هو فلا يصح أنْ نتلقَّى الأمر والنهي إلاَّ منه، ولا نعتمد إلا عليه، ولا يشغل قلوبنا غيره، وهو سبحانه يريد منا أنْ نكون وكلاء:وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱلْحَيِّ ٱلَّذِي لاَ يَمُوتُ } [الفرقان: 58]. فالناصح الفطن الذي لا يتوكل على أحد غير الله، فربما توكّلت على أحد غيره، فأصبحت فلم تجده، وصدق الشاعر حين قال:
اجْعَلْ بربِّكَ كُلَّ عِزِّكَ   يسْتقِرُّ وَيثبتُ
فَإِذَا اعْتَززْتَ بمَنْ يموتُ   فإنَّ عِزَّكَ ميِّتُ
فكأن الحق سبحانه في قوله: { لاۤ إِلَـٰهَ إِلاۤ أَنَاْ } [طه: 14] يقول لموسى: لا تخفْ، فلن تتلقى أوامر من غيري، كما قال سبحانه في آية أخرى:قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً } [الإسراء: 42]. أي: لذهبَ هؤلاء الذين يدَّعُون الألوهية إلى الله يجادلونه أو يتودَّدون إليه، ولم يحدث شيء من هذا. ويشترط فيمن يُعطي الأوامر ويُشرِّع ويُقنِّن ألاَّ ينتفع بشيء من ذلك، وأن تكون أوامره ونواهيه لمصلحة المأمورين، ومن هنا يختلف قانون الله عن قانون البشر الذي يدخله الهوى وتخالطه المصالح والأغراض، فمثلاً إنْ كان المشرِّع والمقنِّن من العمال انحاز لهم ورفعهم فوق الرأسماليين، وإن كان من هؤلاء رفعهم فوق العمال. وكذلك ألاَّ يغيب عنه شيء يمكن أنْ يُستدرك فيما بعد، وهذه الشروط لا توجد إلا في التشريع الإلهي، فله سبحانه صفات الكمال قبل أن يخلق الخَلْق. لذلك قال بعدها: { فَٱعْبُدْنِي } [طه: 14] بطاعة أوامري واجتناب نواهيَّ، فليس لي هَوَى فيما آمرك به، إنما هي مصلحتك وسلامتك. ومعنى العبادة: الناس يظنون أنها الصلاة والزكاة والصوم والحج، إنما للعبادة معنى أوسع من ذلك بكثير، فكلُّ حركة في الحياة تؤدي إلى العبادة، فهي عبادة كما نقول في القاعدة: كُلُّ ما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب. فالصلاة مثلاً لا تتم إلا بستْر العورة، وعليك أنْ تتأمل قطعة القماش هذه التي تستر بها عورتك: كم يد ساهمتْ فيها منذ كانتْ بذرة في الأرض، إلى أنْ أصبحتْ قماشاً رقيقاً يستر عورتك؟ فكلُّ واحد من هؤلاء كان في عبادة وهو يُؤدِّي مهمته في هذه المسألة.

السابقالتالي
2 3