الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ ٱلْلَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ }

فما دام أن القوم يُكذِّبون رسول الله، وهم في مأمن من العذاب، فلا بُدَّ أن يتمادوا في تكذيبهم، ويستمروا في عنادهم لرسول الله لذلك يتوجه الحق - سبحانه وتعالى - إلى الناحية الأخرى فيعطي رسوله صلى الله عليه وسلم المناعة اللازمة لمواجهة هذا الموقف { فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ.. } [طه: 130] لأن لك بكل صبر أجراً يتناسب مع ما تصبر عليه. والصبر قد يكون مَيْسوراً سهلاً في بعض المواقف، وقد يكون شديداً وصَعْباً ويحتاج إلى مجاهدة، فمرَّة يقول الحق لرسوله: اصبر. ومرة يقول: اصطبر. فما الأقوال التي يصبر عليها رسول الله؟ قولهم له: ساحر. وقولهم: شاعر وقولهم: مجنون وكاهن، كما قالوا عن القرآن: أضغاث أحلام. وقالوا: أساطير الأولين. فاصبر يا محمد على هذا كله لأن كلَّ قولة من أقوالهم تحمل معها دليل كذبهم. فقولهم عن رسول الله: ساحر، فمَن الذي سَحَره رسول الله؟ سحر المؤمنين به، فلماذا - إذن - لم يسحرْكم أنتم أيضاً، وتنتهي المسألة. إذن: بقاؤكم على عناده والكفر به دليل براءته من هذه التهمة. وقولهم: شاعر، كيف وهم أمة صناعتها الكلام، وفنون القول شعره ونثره، فكيف يَخْفى عليهم أسلوب القرآن؟ والشعر عندهم كلام موزون ومُقفّى، فهل القرآن كذلك؟ ولو جاء هذا الاتهام من غيركم لكان مقبولاً، أما أنْ يأتيَ منكم أنتم يا مَنْ تجعلون للكلام أسواقاً ومعارض كمعارض الصناعات الآن، فهذا غير مقبول منكم. وسبق أنْ قلنا: إنك إذا قرأتَ مقالاً مثلاً، ومَرَّ بك بيت من الشعر تشعر به وتحسُّ أذنك أنك انتقلتَ من نثر إلى شعر، أو من شعر إلى نثر. فخُذْ مثلاً قول ابن زيدون: " هذا العَذْل محمود عواقبه، وهذه النَّبْوة غمرة ثم تنجلي، ولن يريبني من سيدي أنْ أبطأ سَيْبه، أو تأخر غير ضنين غناؤه، فأبطأ الدِّلاء فَيْضا أملؤها، وأثقل السحائب مشياً أحفلها. ومع اليوم غد، ولكل أجل كتاب، له العتب في احتباله، ولا عتبَ عليه في اغتفاله.
فَإنْ يكُنِ الفعلُ الذي سَاءَ واحِداً   فَأفْعالُه اللائي سَرَرْنَ أُلُوفُ "
على الفور تحس أذنك أنك انتقلتَ من نثر إلى شعر. فإذا ما قرأتَ في القرآن مثلاً قوله تعالى:وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ ٱمْرَأَةُ ٱلْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَـٰذَا بَشَراً إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَٱسَتَعْصَمَ.. } [يوسف: 30-32]. فهل أحسستَ بانتقال الأسلوب من نثر إلى شعر، أو من شعر إلى نثر؟ ومع ذلك لو وزنتَ

السابقالتالي
2 3 4 5