الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً }

تكلمنا عن يسألونك في قوله تعالى:يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ.. } [البقرة: 219]. والسؤال استفهام يعني: طلب فَهْم يحتاج إلى جواب، والسؤال إما أن يكون من جاهل لعالم، كالتلميذ يسأل أستاذه ليعلم الجواب، أو: من عالم لجاهل، كالأستاذ يسأل تلميذه ليعرف مكانته من العلم وإقراره بما يعلم. وهذه المسألة حَلَّتْ لنا إشكالاً كان المستشرقون يُوغلون فيه، يقولون: بينما الحق - تبارك وتعالى - يقول:فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } [الرحمن: 39] يقول في آية أخرى:وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } [الصافات: 24] فالأولى تنفي السؤال، والثانية تُثبته لذلك اتهموا القرآن بالتضارب بين آياته. وهؤلاء معذورون، فليست لديهم المَلَكة العربية لفَهْم الأداء القرآني، وبيان هذه الإشكال أن السؤال يرِدُ في اللغة إمَّا لتعلمَ ما جهلتَ، وإما لتقرير المجيب بما تعلم أنت ليكون حجة عليه. فالحق سبحانه حين يقول:وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } [الصافات: 24] أي: سؤالَ إقرار، لا سؤالَ استفهام، فحين ينفي السؤال ينفي سؤال العلم من جهة المتكلم، وحين يثبت السؤال فهو سؤال التقرير. والحدث مرة يُنفَى، ومرة يُثبت، لكن جهة النفي مُنفكَّة عن جهة الإثبات، فمثلاً الحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم:وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ.. } [الأنفال: 17]. فنفى الرمي في الأولى، وأثبته في الثانية، والحدث واحد، والمثَبت له والمنفيّ عنه واحد هو محمد صلى الله عليه وسلم. فكيف نخرج من هذا الإشكال؟ أرمَى الرسول أم لم يَرْمِ؟ ولتوضيح هذه المسألة ضربنا مثلاً بالأب الذي جلس بجوار ولده كي يذاكر دروسه، فأخذ الولد يذاكر، ويُقلِّب صفحات الكتاب، وحين أراد الأب اختبار مدى ما حصَّل من معلومات لم يجد عنده شيئاً، فقال للولد: ذاكرت وما ذاكرت. ذاكرت يعني: فعلت فِعْل المذاكر، وما ذاكرت لأنك لم تُحصِّل شيئاً. فرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما رمى، أيمكنه أنْ يُوصل هذه الرمية إلى أعين الجيش كله؟ إذن: فرسول الله أخذ قبضة من التراب ورمى بها ناحية الجيش، إنما قدرة الله هي التي أوصلتْ حفنة التراب هذه وذَرَّتْها في أعيُنِ الأعداء جميعاً. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [الجاثية: 26] فنفتْ عنهم العلم، وفي آية أخرى:يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا.. } [الروم: 7] فأثبتتْ لهم عِلْماً. نعود إلى قوله تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ.. } [طه: 105] وحينما استعرضنا يَسْألُونَكَ في القرآن الكريم وجدنا جوابها مسبوقاً بـ قُلْ كما في قوله تعالى:يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ.. } [البقرة: 219]. وقوله تعالىيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ.. } [البقرة: 189] وهكذا في كل الآيات، ما عدا قوله تعالى هنا { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [طه: 105] فاقترن الفعل قُلْ بالفاء، لماذا؟ قالوا: لأن السؤال في كُلِّ هذه الآيات سؤال عن شيء وقع بالفعل، فكان الجواب بقُلْ.

السابقالتالي
2