الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ }

يريد الله تبارك وتعالى أن يلفتنا إلى أنه بعد أن جعل المسخة الخلقية والأخلاقية لليهود: { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } [البقرة: 66] أي ما معها: { وَمَا خَلْفَهَا } [البقرة: 66] أي ما بعدها: " والنكال " هو العقوبة الشديدة.. والعقوبة لابد أن تنشأ عن تجريم أولاً.. هذا هو المبدأ الإسلامي والمبدأ القانوني.. فرجال القانون يقولون لا عقوبة إلا بتجريم ولا تجريم إلا بنص.. قبل أن تعاقب لابد أن تقول إنّ هذا الفعل جريمة عقوبتها كذا وكذا.. وفي هذه الحالة عندما يرتكبها أي إنسان يكون مستحقاً للعقوبة.. وما دام هذا هو الموقف فلابد من تشريع. والتشريع ليس معناه أن الله شرع العقوبة.. ولكن معناه محاولة منع الجريمة بالتخويف حتى لا يفعلها أحد.. فإذا تمت الجريمة فلابد من توقيع العقوبة.. لأن توقيعها عبرة للغير ومنع له من ارتكابها.. وهذا الزجر يسمى نكولاً ومنها النكول في اليمين أي الرجوع فيه. إذن قوله تعالى: { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً } [البقرة: 66].. أي جعلناهم زجراً وعقابا قوياً.. حتى لا يعود أحد من بني إسرائيل إلى مثل هذه المخالفة: { نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } [البقرة: 66].. أي عقوبة حين يرويها الذين عاصروها تكفي لكيلا يقتربوا من هذه المعصية أبداً.. وتكون لهم موعظة لا ينسونها: { وَمَا خَلْفَهَا } [البقرة: 66] يعني جعلناها تتوارثها الأجيال من بني إسرائيل جيلاً بعد جيل.. كما بيّنا الأب يحكي لابنه حتى لا يعود أحد في المستقبل إلى مثل هذا العمل من شدة العقوبة: { وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 66].. أي موعظة لكل الناس الذين سيبلغهم الله تبارك وتعالى بما حدث من بني إسرائيل وما عاقبهم به.. حتى يقوا أنفسهم شر العذاب يوم القيامة الذي سيكون فيه ألوان أشد كثيراً من هذا العذاب.. على أننا لابد أن نلفت الانتباه إلى أن مبدأ " إنه لا عقوبة إلا بتجريم ولا تجريم إلا بنص " هو مبدأ إلهي.. ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى:وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء: 15]. أي يأتي الرسول أولاً ليجرم هذه الأفعال.. فإن ارتكبها أحد من خلق الله حقت عليه العقوبة.. ومن هنا فإن كل ما يقال عن قوانين بأثر رجعي مخالف لشريعة الله تبارك وتعالى وعدله.. فلا يوجد في عدالة السماء ما يقال عنه أثر رجعي.