الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَٰقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأرْضِ أُولَـۤئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ }

بعد أن بَيَّنَ الله لنا مفهوم الإيمان في أننا نتلقى عن الله وننفذ الحُكْم ولو لم نعرف الحكمة. فكل ما يأتي من الله نأخذه بمنطق الإيمان، وهو أن الله الذي قال، وليس بمنطق الكفر والتشكك. فكل شيء عن الله، حكمته أنه صادر عن الحق سبحانه وتعالى. وأخبرنا الحق تبارك وتعالى أن الفاسقين هم المبتعدون عن منهج الله، وأراد الحق أن يبين لنا صفات الفاسقين، فحددها في ثلاث صفات: أولاً: الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه. ثانياً: الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل. ثالثاً: الذين يفسدون في الأرض. ثم حدد لنا الحق تبارك وتعالى حكمهم فقال: { أُولَـۤئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } [البقرة: 27]. والخسران الذي وصلوا إليه هو من عملهم، لأنهم تركوا المنهج وبدأوا يُشَرِّعون لأنفسهم بهوى النفس ولذلك يقول الحق جل جلاله عنهم:أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } [البقرة: 16]. إذن: هم الذين اختاروا، وهم الذين اشتروا الضلالة ودفعوا ثمنها من هدى الله، فكأنهم عقدوا صفقة خاسرة لأن هدى الله هو الذي يقودنا إلى الحياة الخالدة والنعيم الذي لا يزول. والحق سبحانه وتعالى يعطينا الصورة في قوله تعالى:إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } [التوبة: 111]. إذن: فالمؤمنون باعوا لله سبحانه وتعالى أموالهم وأنفسهم، وكانوا صادقين في عهدهم، أما الكفار والمنافقون فقد باعوا هدى الله، واشتروا به ضلال الدنيا. فالحق سبحانه وتعالى ذكر لنا أول صفات الفاسقين أنهم لا عهد لهم. ليس بينهم وبين الناس فقط، ولكن لا عهد لهم مع الله أيضاً، وكلما عاهدوا الله عهداً نقضوه، والله يحب الوفاء بالعهد. ولذلك يقول جل جلاله:وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } [الإسراء: 34]. ويقول تعالى:وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ } [الأعراف: 102]. ما هو العهد المُوَثَّقُ الذي أخذه الله على عباده فنقضوه؟ إنه الإيمان الأول. الإيمان الفطري الموجود في كل منا. فالله سبحانه وتعالى أخذ من البشر جميعاً عهداً، فوفَّى به بعضهم ونقضه بعضهم. والله سبحانه وتعالى ذكر لنا في القرآن الكريم أن هناك عهدا مُوَثَّقاً بينه وبين ذرية آدم. فقال جل جلاله:وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ } [الأعراف: 172]. وهكذا أخذ الله عهداً على ذرية آدم بأن يؤمنوا به، وأشهدهم أنه ربهم.

السابقالتالي
2 3 4 5 6