الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ٱلأَرْضُ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ }

إن الحق يبلغنا أنه قد نصر المؤمنين به. ويجيء الحق بكلمة " هزموهم " وهي تدل على فرار من كان يجب أن يكون مهاجماً. والمحارب يجب أن يكون مهاجماً كاراً دائماً، فحين يلجأ إلى أن يفر، هنا نتوقف لنتبين أمره، هل هذا الفِرار تحرفاً لقتال وانعطافاً وميلاً إلى موقف آخر هو أصلح للقتال فيه؟ لو كان الأمر كذلك فلا تكون الهزيمة، لكن إذا كان الفِرار لغير كَرٍ ومخادعة للعدو بل كان للخوف هنا تكون الهزيمة. وقول الله: { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } [البقرة: 251] يدل على أن جنود جالوت لم يُقتلوا كلهم، ولكن الذين قُتلوا هم أئمة الكفر فيهم، بدليل قوله بعد ذلك: { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ } [البقرة: 251]. وجالوت هو زعيم جيش الكفار الذي هرب، فطارده داود وقتله. ولأول مرة يظهر لنا اسم " داود " في هذه القصة الطويلة، وهو اسم لم يكن عندنا فكرة عنه من قبل، وستأتي الفكرة عنه بعد هذه القصة في قوله تعالى:وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ * أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [سبأ: 10-11]. إذن فبداية داود جاءت من هذه المعركة بعد قتل جالوت، وكان " داود " أخاً لعشرة وهو أصغرهم، وقال النبي للقوم: إن من يدخل المعركة ضد جالوت لابد أن يأتي درع موسى على مقاسه، وهنا استعرض والد " داود " الدرع على جميع أبنائه، فلم يأتي على مقاس أي واحد منهم إلا على أصغرهم، وهو " داود ". جاء الدرع على مقاسه، ودخل " داود " المعركة فقتل جالوت قائد المشركين، وشاءت حكمة الله أن يكون أصغر المؤمنين هو الذي يقتل كبير جيش المشركين. كانت هذه المعركة بداية تاريخ داود، وقد جاءت له هذه المعركة بالفتح العظيم، ثم أنعم الله عليه بالملك والحكمة وجعل الجبال والطير تردد وترجع معه تسبيح الله وتنزيهه، كل ذلك نتيجة قتل جالوت. وأحب داود الدرع وصار أمله أن يعلمه الله صناعة الدروع، ولذلك لم يتخذ صنعة في حياته إلا عمل الدروع. وجعل الله له الحديد ليناً ليصنع منه ما يشاء كما جاء في قوله تعالى:وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ.. } [الأنبياء: 80]. وهذا دليل على أن الإنسان يحب الشيء الذي له صلة برفعة شأنه. ولقد كان قتل جالوت هو البداية لداود. { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ٱلأَرْضُ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } [البقرة: 251] إن الحق يأتي هنا بقضية كونية في الوجود، وهي أن الحرب ضرورة اجتماعية، وأن الحق يدفع الناس بالناس.

السابقالتالي
2 3 4 5 6