الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ كَذٰلِكَ يُبيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }

والخمر - كما نعرف - مأخوذة من الستر، ويقال: " دخل فلان في خمرة " أي في أيكة من الأشجار ملتفة فاختبأ فيها. و " الخِمار " هو القناع الذي ترتديه المسلمة لستر رأسها، وهو مأخوذ أيضاً من نفس المادة. و " خامره الأمر " أي خالطه. وكل هذه المعاني مأخوذة من عملية الستر. و " الميسر " مأخوذة من اليسر لأنه يظهر للناس بمكاسب يسيرة بلا تعب. والخمر والميسر من الأمور التي كانت معروفة في الجاهلية. والإسلام حين جاء ليواجه نُظُماً جاهلية واجه العقيدة بلا هوادة، ولم يجابهها ويواجهها على مراحل بل أزالها من أول الأمر، ورفع راية " لا إله إلا الله محمد رسول الله " ، ثم جاء الإسلام في الأمور التي تُعتبر من العادات فبدأ يهونها لأن الناس كانت تألفها، لذلك أخذها بشيء من الرفق والهوادة. وكان هذا من حكمة الشرع، فلم يجعل الأحكام في أول الأمر عملية قسرية فقد يترتب عليها الخلل في المجتمع وفي الوجود كله، وإنما أخذ الأمور بالهوادة. وإذا كانت الخمرة مأخوذة من الستر، فماذا تستر؟ إنها تستر العقل بدليل أن من يتعاطاها يغيب عن وعيه. ولا يريد الله سبحانه وتعالى للإنسان الذي كرمه الله بالعقل أن يأتي للشيء الذي كرمه به ويُسَيِّر به أمور الخلافة في الأرض ويستره ويغيِّبه، لأن من يفعل ذلك فكأنه رد على الله النعمة التي أكرمه بها، وهذا هو الحمق. ثم إن كل الذي يتعاطون الخمر يبررون فعلهم بأنهم يريدون أن ينسوا هموم الدنيا، ونسأل هؤلاء: وهل نسيان الهموم يمنع مصادرها؟ لا، ولذلك فالإسلام يطلب منك أن تعيش همومك لتواجهها بجماع عقلك، فإذا كانت هناك هموم ومشكلات فالإسلام لا يريد منك أن تنساها، لا، بل لابد أن توظف عقلك في مواجهتها، وما دام المطلوب منك أن تواجه المشكلات بعقلك فلا تأتي لمركز إدارة الأمور الحياتية وهو العقل، والذي يعينك على مواجهة المشكلات وتقهره بتغييبه عن العمل. وهل النسيان يمنع المصائب؟ إن الذي يمنع المصائب هو أن تحاول بجماع فكرك أن تجد السبيل للخروج منها، فإذا كان الأمر ليس في استطاعتك فمن الحمق أن تفكر فيه لأن الله يريد منك أن تريح عقلك في مثل هذه الأمور، وإن كان الأمر له حل وفي استطاعتك حله، فأنت تحتاج للعقل بكامل قوته. والحق سبحانه وتعالى يرشدنا في هذه القضية بحكمة الحكيم، ويعطينا عطاء لنحكم نحن في الأمر قبل أن يطلب منا. إنه - سبحانه - يمتن علينا ويقول:وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } [النحل: 67]. فعندما ذكر الله " سَكَراً " مر عليها بلا تعليق.

السابقالتالي
2 3 4 5 6