الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

والذّلة هي المعصية، وهي مأخوذة من " زال " ، وزال الشيء أي خرج عن استقامته، فكأن كل شيء له استقامة، والخروج عنه يعتبر زللاً، والزلل: هو الذنوب والمعاصي التي تُخالف بها المنهج المستقيم. { مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ } [البقرة: 209] إنه سبحانه يوضح لنا أنه لا عذر لكم مطلقاً في أن تزلوا لأنني بينت لكم كل شيء، ولم أترككم إلى عقولكم، ومن المنطقي أن تستعملوا عقولكم استعمالاً صحيحاً لتديروا حركة الكون الذي استخلفتكم فيه، ومع ذلك، إن أصابتكم الغفلة فأنا أرسل الرسل. ولذلك قال سبحانه:وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء: 15]. لقد رحم الله الخلق بإرسال الرسل ليبينوا للإنسان الطريق الصحيح من الطريق المعوج. والحق سبحانه وتعالى يترك بعض الأشياء للبشر ليأتوا بفكر من عندهم ثم يرتضي الإسلام ما جاءوا به ليعلمنا أن العقل إذا ما كان طبيعياً ومنطقياً فهو قادر على أن يهتدي إلى الحكم بذاته. وفي تاريخ الإسلام نجد أن سيدنا عمر قد رأى أشياء واقترح بعضاً من الاقتراحات، ووافق عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ينزل القرآن على وفق ما قال عمر، وقد يتساءل أحد قائلاً: ألم يكن النبي صلى الله عليه وسلم أولى؟ نقول: لو كانت تلك الآراء قد جاءت من النبي صلى الله عليه وسلم لما كان فيها غرابة لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم ويوحي إليه، لكن الله يريد أن يقول لنا: أن العقل الفطري عندما يصفو فهو يستطيع أن يهتدي للحكم الصحيح، وإن لم يكن هناك حكم قد نزل من السماء. ولذلك تستفز أحكام سيدنا عمر عدداً كبيراً من المستشرقين ويقولون: أليس عندكم سوى عمر؟ لماذا لا تقولون محمداً؟ نقول لهم: لقد تربى عمر في مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم، فما يقول هو، إنما قد أخذه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أقر عمر بذلك وقال: " ما عمر لولا الإسلام " ، ونحن نستشهد بعمر لأنه بشر وليس رسولاً، ويسري عليه ما يسري على البشر، فلا يوحى إليه ولم يكن معصوماً. إذن كأن الحق أراد أن يُقَرِّب لنا القدرة على الاستنباط والفهم فنكون جميعاً عمر لأن عمر بالفطرة كان يهتدي إلى الصواب، ويقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " نفعل كذا " ، فينزل الوحي موافقاً لرأيه، فكأن الله لم يكلفنا شططاً، إنما جاء تكليفه ليحمي العقول من أهواء النفس التي تطمس العقول، فآفة الرأي الهوى، ولولا وجود الأهواء لكانت الآراء كلها متفقة. وقديماً أعطوا لنا مثلاً بالمرأة التي جمعت الصيف والشتاء في ليلة واحدة، فقد زوجت ابنها وابنتها، وعاش الأربعة معها في حجرة واحدة، ابنها معه زوجته، وابنتها معها زوجها، والمرأة معهم، تنام نوماً قليلاً وتذهب لابنتها توصيها: " دفئي زوجك وأرضيه " فالجو بارد، وتذهب لابنها وتقول: " ابعد عن زوجتك فالدنيا حر ".

السابقالتالي
2