الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ }

ونحن نسمع كلمة " ثقافة " ، وكلمة " ثقاف " ، والثقافة هي يسر التعلم، أو أن تلم بطرف من الأشياء المتعددة، وبذلك يصبح فلان مثقفاً أي لديه كمُّ من المعلومات، ويعرف بعض الشيء عن كل شيء، ثم يتخصص في فرع من فروع المعرفة فيعرف كل شيء عن شيء واحد. كل هذه المعاني مأخوذة من الأمور المحسة، والتثقيف عند العرب هو تقويم الغصن، فقد كان العرب يأخذون أغصان الشجر ليجعلوها رماحاً وعصياً، والغصن قد يكون معوجاً أو به نتوء، فكان العربي يثقفه، أي يزيل زوائده واعوجاجه، ثم يأتي بالثقاف وهو قطعة من الحديد المعقوف ليقوِّم بها المعوج من الأغصان كما يفعل عامل التسليح بحديد البناء. كأن المُثَقِّف هو الذي يعدل من شيء معوج في الكون فهو يعرف هذه وتلك، وأصبح ذا تقويم سليم. وهكذا نجد أن معاني اللغة وألفاظها مشتقة من المحسات التي أمامنا. وقوله: " ثقفتموهم " أي " وجدتموهم " ، فثقف الشيء أي وجده. والحق يقول:فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي ٱلْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم.. } [الأنفال: 57]. أي " شردهم حيث تجدهم. ويقول الحق: { وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم } [البقرة: 191] أي لا تقولوا إنهم أخرجوكم من هنا، وإنما أخرجوهم من حيث أخرجوكم، أي من أي مكان أنتم فيه، وعند ذلك لن تكونوا معتدين. وقوله تعالى: { وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } [البقرة: 191] يذكرنا بمنطق مشابه في آية أخرى منها قوله تعالى:وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ.. } [النحل: 126]. وقوله تعالى:وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا.. } [الشورى: 40]. وعندما نبحث في ثنايا هذه النصوص " وجزاء سيئة سيئة مثلها " قد يرد هذا الخاطر: أخذت حقي ممن أساء إليّ، وانتقمت منه بعمل يماثل العمل الذي فعله معي، هل يقال: إنني فعلت سيئة؟ وحتى نفهم المسألة نقول: الحق سبحانه وتعالى يأتي في بعض الأحايين بلفظ " المشاكلة " وهي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحته، ومثل ذلك قوله:وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ } [آل عمران: 54]، إن الله لا يمكر، وإنما اللفظ جاء للمشاكلة، أو أن اللفظ الكريم قد جاء في استيفاء حقك بكلمة " سيئة مثلها " لينبهك إلى أن استيفاء حقك بمثل ما صنع بك يعتبر سيئة إذا ما وازناه بالصفح والعفو عن المسيء، يشير إلى ذلك سبحانه في نهاية هذه الآية بقوله:فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ } [الشورى: 40] وبمثل ذلك كان ختام الآية السابقةوَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } [النحل: 126]. ويقول الحق: { وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ } [البقرة: 191]، والفتنة مأخوذة من الأمر الحسي، فصائغ الذهب يأخذ قطعة الذهب فيضعها في النار فتنصهر، فإذا ما كان يشوبها معدن غريب عن الذهب فهو يخرج ويبقى الذهب خالصاً، فكأن الفتنة ابتلاء واختبار، وقد فعل المشركون ما هو أسوأ من القتل، فقد حاولوا من قبل أن يفتنوا المؤمنين في دينهم بالتعذيب، فخرج المؤمنون فراراً بدينهم.

السابقالتالي
2 3