الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

وساعة ينادي الله { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [البقرة: 178] فهذا النداء هو حيثية الحكم الذي سيأتي، ومعنى هذا القول: أنا لم أكلفكم اقتحاماً على إرادتكم أو على اختياركم، وإنما كلفتكم لأنكم دخلتم إلي من باب الإيمان بي، وما دمتم قد آمنتم بي فاسمعوا مني التكليف. فالله لم يكلف من لم يؤمن به، وما دام الله لا يكلف إلا مَنْ آمن به فإيمانك به جعلك شريكاً في العقد، فإن كتب عليك شيئاً فأنت شريك في الكتابة، لأنك لو لم تؤمن لما كتب، فكأن الصفقة انعقدت، وما دامت الصفقة قد انعقدت فأنت شريك في التكليف، ولذلك يقول الله: " كُتب " بضم الكاف. ولم يقل " كَتب " بفتح الكاف. وتلحظ الفرق جلياً في الأشياء التي للإنسان دخل فيها، فهو سبحانه يقول:كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ.. } [المجادلة: 21]. إنه سبحانه هنا الذي كتب، لأنه لا شريك له. عندما تقرأ { كُتِبَ عَلَيْكُمُ } فافهم أن فيها إلزاماً ومشقة، وهي على عكس " كتب لكم " مثل قوله تعالى:قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا.. } [التوبة: 51]. إن " كَتب لنا " تشعرنا أن الشيء لمصلحتنا. وفي ظاهر الأمر يبدو أن القصاص مكتوب عليك، وساعة يكتب عليك القصاص وأنت قاتل فيكون ولي المقتول مكتوباً له القصاص، إذن كل " عليك " مقابلها " لك " ، وأنت عرضة أن تكون قاتلاً أو مقتولاً. فإن كنت مقتولاً فالله كتب لك. وإن كنت قاتلاً فقد كتب الله عليك. لأن الذي " لي " لابد أن يكون " على " غيري، والذي " عليّ " لابد أن يكون " لغيري ". فالتشريعُ لا يُشرع لفرد واحد وإنما يشرع للناس أجمعين. عندما يقول: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ } [البقرة: 178]، ثم يقول في الآية التي بعدها:وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَاةٌ } [البقرة: 179]، فهو سبحانه قد جاء بـ " لكم " ، و " عليكم ". " عليكم " للقاتل، و " لكم " لولي المقتول. فالتشريع عادل لأنه لم يأت لأحد على حساب أحد، والعقود دائماً تراعي مصلحة الطرفين. { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ } [البقرة: 178]. من هو الحر؟ الحر ضد العبد وهو غير مملوك الرقبة، والحر من كل شيء هو أكرم ما فيه، ويقال: حر المال يعني أكرم ما في المال. و " الحر " في الإنسان هو من لا يحكم رقبته أحد. و " الحر " من البقول هو ما يؤكل غير ناضج، أي غير مطبوخ على النار، كالفستق واللوز. والحق سبحانه يقول: { ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ } [البقرة: 178]، وظاهر النص أن الحر لا يُقتل بالعبد، لأنه سبحانه يقول: { ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ } [البقرة: 178]، لكن ماذا يحدث لو أن عبداً قتل حراً، أو قتلت امرأة رجلاً هل نقتلهما أم لا؟ إن الحق يضع لمسألة الثأر الضوابط، وهو سبحانه لم يُشَرِّعْ أن الحر لا يُقتل إلا بالحر، وإنما مقصد الآية أن الحر يُقتل إن قتل حراً، والعبد يُقتل إن قتل عبداً، والأنثى مقابل الأنثى، هذا هو إتمام المعادلة، فجزاء القاتل من جنس ما قتل، لا أن يتعداه القتل إلى من هو أفضل منه.

السابقالتالي
2 3 4 5