الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }

يريد الحق سبحانه وتعالى أن يقرب صفات التمزق في المنافقين إلى فهمنا، ولذلك فهو يضرب لنا الأمثال، والأمثال جمع مثل وهو الشبيه الذي يقرب لنا المعنى ويعطينا الحكمة، والأمثال باب من الأبواب العريقة في الأدب العربي. فالمثل أن تأتي بالشيء الذي حدث وقيل فيه قولة موجزة ومعبرة، رأى الناس أن يأخذوا هذه المقولة لكل حالة مشابهة. ولنضرب مثلاً لذلك، ملك - من الملوك - أراد أن يخطب فتاة من فتيات العرب، فأرسل خاطبة اسمها " عصام " لِترى هذه العروس وتسأل عنها وتخبره، فلما عادت قال لها: ما وراءك يا عصام؟ أي بماذا جئت من أخبار، قالت له: أبدي المخض عن الزبد. المخض هو أن تأتي باللبن الحليب وتخضُّه في القربة حتى ينفصل الزبد عن اللبن، فصار الاثنان ـ السؤال والجواب ـ يُضربان مثلا. تأتي لمَنْ يجيئك تنتظر منه أخباراً فتقول له: ما وراءك يا عصام. ولا يكون اسمه " عصام ".. ولم ترسله لاستطلاع أخبار، بينما تريد أن تسمع ما عنده من أخبار. وحينما تريد مثلاً.. أن تصور تنافر القلوب.. وكيف أنها إذا تنافرت لا تلتئم أبداً.. ويريد الشاعر أن يقرب هذا المعنى فيقول:
إنّ القلوبَ إذا تَنَافَرَ وُدُّها   مثل الزجاجةِ كَسْرها لا يشعبُ
أي: لا يُجْبَر وساعة تنكسر الزجاجة لا تستطيع إصلاحها، ولكي يسهل هذا المعنى عليك وتفهمه في يسر وسهولة.. فإنك لا تستطيع أن تصور أو تشاهد معركة بين قلبين.. لأن هذه مسألة غيبية، فتأتي بشيء مُشاهَد وتضرب به المثل، وبذلك يكون المعنى قد قرب، لأنك شبهته بشيء محسوس، تستطيع أن تفهمه وتشاهده. ولقد استخدم الله سبحانه وتعالى الأمثال في القرآن الكريم في أكثر من موضع.. ليُقَرِّبَ من أذهاننا معنى الغيبيات التي لا نعرفها ولا نشاهدها.. ولذلك ضرب لنا الأمثال في قمة الإيمان.. وحدانية الله سبحانه وتعالى، وضرب لنا المثل بنوره جل جلاله، الذي لا نشهده وهو غيب عنا، وضرب لنا الأمثال بالنسبة للكفار والمنافقين.. لنعرف فساد عقيدتهم ونتنبه لها، وضرب لنا الأمثال فيما يمكن أن يفعله الكفر بالنعمة.. والطغيان في الحق، وغير ذلك من الأمثال.. قال الله تعالى:وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً } [الإسراء: 89]. وقد ضرب الله جل جلاله لنا الأمثال في الدنيا وفي الآخرة، وفي دقة الخلق، وقمة الإيمان، ومع ذلك فإن الناس منصرفون عن حكمة هذه الأمثال.. كافرون بها، مع أن الحق تبارك وتعالى ضربها لنا لتقرِّبَ لنا المعنى.. تشبيهاً بماديات نراها في حياتنا الدنيا.. وكان المفروض أن تزيد هذه الأمثال الناس إيماناً لأنها تقرب لهم معاني غائبة عنهم، ولكنهم بدلاً من ذلك ازدادوا كفراً!! ولا بد قبل أن نتعرض للآية الكريمة: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } [البقرة: 17].

السابقالتالي
2 3 4 5 6