الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَاهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ }

ما هي ملة إبراهيم؟ إنها عبادة الله وحده لا شريك له وعشق التكاليف فإبراهيم وَفَّى كل ما كلفه به الله وزاد عليه.. وقابل الابتلاء بالطاعة والصبر.. فعندما ابتلاه الله بذبح ابنه الوحيد لم يتردد، وكان يؤدي التكاليف بعشق، ويحاول أن يستبقي المنهج السليم في ذريته. قوله تعالى: { وَمَن يَرْغَبُ } [البقرة: 130] يعني يعرض ويرفض. ويقال رغب في كذا أي أحبه وأراده. ورغب عن كذا أي صَدَّ عنه وأعرض.. والذين يصدُّون عن ملة إبراهيم ويرفضونها هؤلاء هم السفهاء الجهلة، لذلك قال عنهم الله سبحانه وتعالى: { إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [البقرة: 130].. دليل على ضعف الرأي وعدم التفرقة بين النافع والضار.. فعندما يكون هناك من ورثوا مالاً وهم غير ناضجي العقل لا يتفق عقلهم مع سنهم نسميهم السفهاء.. والسفيه هو من لم ينضج رأيه ولذلك تنقل قوامته على ماله إلى وَلِيٍّ أو وَصِيٍّ لأنه بِسَفَهِهِ غيرُ قادر على أن ينفق المال فيما ينفع.. والقرآن الكريم يعالج هذه المسألة علاجاً دقيقا فيقول:وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَٱرْزُقُوهُمْ فِيهَا وَٱكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } [النساء: 5]. نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى سمى أموال السفهاء بأموالي الولي ولم يعتبرها مال السفيه لأنه ليس أهلاً للقيام عليها.. وجعل هذه الأموال تحت إشراف شخص آخر أكثر نضجاً وحكمة. وقوله تعالى: " أموالكم " ليكون الولي أو الوصي حريصاً عليها كَمَالِهِ أو أكثر ولكن هو قَيِّم فقط.. فإذا بلغ الإنسان سن الرشد أو شُفِي السفيه من سفاهته يُرَد إليه ماله ليتصرف فيه. ونحن نرى عدداً من الأبناء يرفعون قضايا على آبائهم وأمهاتهم يتهمونهم فيها بالسفه لأنهم لا يحسنون التصرف في أموالهم.. ثم يأخذون هذه الأموال ويبعثرونها هم.. والذي يجب أن يعلمه كل مَنْ يقوم بهذه العملية أنه لا حق له في إنفاق المال وتبذيره لحسابه الخاص، ولكنّ هناك حكمين: إما أن يكون الشخص فقيراً فله أن يأكل بالمعروف.. وإما أن يكون غنياً فيجعل عمله في الولاية لله لا يتقاضى عنه شيئاً.. أما أن يأخذ المال ويبعثره على نفسه وشهواته وعلى زوجته وأولاده فهذا مرفوض ويُحاسَبُ عليه.. والله سبحانه وتعالى يقول:وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ.. } [النساء: 6]. إذن: الذي يعرض عن ملة إبراهيم هو سفيه، لا يملك عقلاً يميز بين الضار والنافع. ويقول الله سبحانه وتعالى: { وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَاهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ } [البقرة: 130].. اصطفاه في الدنيا بالمنهج، وبأن جعله إماماً وبالابتلاء.. وكثير من الناس يظن أن ارتفاع مقامات بعضهم في أمور الدنيا هو اصطفاء من الله لهم بأن أعطاهم زخرف الحياة الدنيا، ويكون هذا مبرراً لأن يعتقدوا أن لهم منزلةً عالية في الآخرة.. نقول لا، فمنازل الدنيا لا علاقة لها بالآخرة. ولذلك قال الله تبارك وتعالى: { وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَاهُ فِي ٱلدُّنْيَا } [البقرة: 130].. وأضاف: { وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ } [البقرة: 130].. لنعلم أن إبراهيم عليه السلام له منزلة عالية في الدنيا ونعيم في الآخرة أي الاثنين معاً.