الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً }

الفاء هنا تفيد: ترتيب شيء على شيء فابحث في الجملة بعدها عن هذا الترتيب، فالمعنى: بشِّر المتقين، وأنذر القوم اللُّد لأننا يسرنا لك القرآن. ويسَّرنا القرآن: أي: طوعناه لك حِفْظاً وأداءً وإلقاء معانٍ، فأنت تُوظِّفه في المهمة التي نزل من أجلها. وتيسير القرآن ورد في آيات كثيرة، كقوله تعالى في سورة القمر:وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [القمر: 17]. والمتأمل في تيسير القرآن يجد العجائب في أسلوبه، فترى الآية تأتي في سورة بنص، وتأتي في نفس السياق في سورة أخرى بنص آخر، فالمسألة - إذن - ليست أكلاشيه ثابت، وليست عملية ميكانيكية صماء، إنه كلام رب. خُذْ مثلاً قوله تعالى:كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } [المدثر: 54-55]. وفي آية آخرى:إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً } [الإنسان: 29]. مرة يقول:إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ.. } [الإنسان: 29] ومرة يقول:كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } [عبس: 11]. ونقف هنا أمام ملحظ دقيق في سورة الرحمن حيث يقول الحق تبارك وتعالى:وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [الرحمن: 46] ثم يأتي الحديث عنهما: فيهما كذا، فيهما كذا إلى أنْ يصلَ إلى قاصرات الطرف فيقول:فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ.. } [الرحمن: 56]. وكذلك في:وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } [الرحمن: 62] فيهما كذا وفيهما كذا إلى أنْ يصلَ إلى الحور العين فيقول:فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } [الرحمن: 70]. ولك أنْ تتساءل: الحديث هنا عن الجنتين، فلماذا عدل السياق عن فيهما إلى فيهن في هذه النعمة بالذات؟ قالوا: لأن نعيم الجنة مشترك، يصح أنْ يشترك فيه الجميع إلا في نعمة الحور العين، فلها خصوصيتها، فكأن الحق تبارك وتعالى يحترم مشاعر الغَيْرة عند الرجل، ففي هذه المسألة يكون لكل منا جنته الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد. لذلك " لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة رأى فيها قصراً فابتعد عنه، فلما سُئِل عن ذلك صلى الله عليه وسلم قال: " إنه لعمر، وأنا أعرف غَيْرة عمر ". فإلى هذه الدرجة تكون غيرة المؤمن، وإلى هذه الدرجة تكون دِقَّة التعبير في القرآن الكريم. ولولا أن الله تعالى أنزل القرآن ويسَّره لَمَا حفظه أحد فالنبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الآيات، وحِين يسري عنه يمليها على الصحابة، ويظل يقرؤها كما هي، ولولا أن الله قال له:سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ } [الأعلى: 6] ما تيسّر له ذلك. ونحن في حفْظنا لكتاب الله تعالى نجد العجائب أيضاً، فالصبي في سنِّ السابعة يستطيع حفْظ القرآن وتجويده، فإنْ غفل عنه بعد ذلك تَفلَّتَ منه، على خلاف ما لو حفظ نصاً من النصوص في هذه السن يظل عالقاً بذهنه. إذن: مسألة حفظ القرآن ليست مجرد استذكار حافظة، بل معونة حافظ، فإن كنت على وُدٍّ وأُلْفة بكتاب الله ظلَّ معك، وإنْ تركته وجفوْته تفلَّتَ منك، كما جاء في الحديث الشريف:

السابقالتالي
2