الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً }

وهذا خطاب عام لجميع الخلْق دون استثناء، بدليل قوله تعالى بعدها:ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ.. } [مريم: 72] إذن: فالورود هنا يشمل الأتقياء وغيرهم. فما معنى الورود هنا؟ الورود أن تذهب إلى مصدر الماء للسقيا أي: أخْذ الماء دون أنْ تشرب منه، كما في قوله تعالى:وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ.. } [القصص: 23] أي: وصل إلى الماء. إذن: معنى: { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا.. } [مريم: 71] أي: أنكم جميعاً مُتقون ومجرمون، سترِدُون النار وتروْنها لأن الصراط الذي يمرُّ عليه الجميع مضروب على مَتْن جهنم. وقد ورد في ذلك حديث أبي سعيد الخدري قال قال صلى الله عليه وسلم: " يوضع الصراط بين ظهراني جهنم، عليه حسك كحسك السعدان، ثم يستجيز الناس، فنَاجٍ مُسلَّم، ومخدوش به، ثم ناج ومحتبس به، ومنكوس ومكدوس فيها ". فإذا ما رأى المؤمن النار التي نجاه الله منها يحمد الله ويعلم نعمته ورحمته به. ومن العلماء مَنْ يرى أن ورد أي: أتى الماء وشرب منه ويستدلون بقوله تعالى:يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ.. } [هود: 98] أي: أدخلهم. لكن هذا يخالف النسق العربي الذي نزل القرآن به، حيث يقول الشاعر:
وَلَمَّا وَرَدْنَ الماءَ زُرْقاً جِمامُه   وَضَعْنَا عِصِيَّ الحاضِرِ المتَخَيِّمِ
أي: حينما وصلوا إلى الماء ضربوا عنده خيامهم، فساعةَ أنْ وصلوا إليه وضربوا عنده خيامهم لم يكونوا شَرِبوا منه، أو أخذوا من مائه، فمعنى الورود أي: الوصول إليه دون الشُّرب من مائه. وأصحاب هذه الرأي الذين يقولون { وَارِدُهَا } [مريم: 71] أي: داخلها يستدلون كذلك بقوله تعالى:ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } [مريم: 72] يقولون: لو أن الورود مجرد الوصول إلى موضع الماء دون الشرب منه أو الدخول فيه ما قال تعالى:وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا } [مريم: 72] ولِقَال: ثم يُنجِّي اللهُ الذين اتقوا ويُدخِل الظالمين.. لكنوَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ } [مريم: 72] فيها الدليل على دخولهم جميعاً النار. فعلى الرأي الأول: الورود بمعنى رؤية النار دون دخولها، تكون الحكمة منه أن الله تعالى يمتنُّ على عباده المؤمنين فيُريهم النار وتسعيرها ليعلموا فضل الله عليهم، وماذا قدَّم لهم الإيمان بالله من النجاة من هذه النار، كما قال تعالى:فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } [آل عمران: 185]. ويمكن فَهْم الآية على المعنى الآخر: الورود بمعنى الدخول لأن الخالق سبحانه وتعالى خلق الأشياء، وخلق لكل شيء طبيعةً تحكمه، وهو سبحانه وحده القادر على تعطيل هذه الطبيعة وسلبها خصائصها. كما رأينا في قصة إبراهيم عليه السلام، فيكون دخول المؤمنين النارَ كما حدث مع إبراهيم، وجَعْلها الله تعالى عليه بَرْداً وسلاماً، وقد مكَّنكم الله منه، فألقوه في النار، وهي على طبيعتها بقانون الإحراق فيها، ولم يُنزِل مثلاً على النار مطراً يُطفِئها ليوفر لهم كل أسباب الإحراق، ومع ذلك ينجيه منها لتكون المعجزة ماثلةً أمام أعينهم.

السابقالتالي
2