الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىۤ أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً }

اعتزل: ترك صحبة إلى خير منها ولو في اعتقاده، وهنا يلفتنا الحق سبحانه إلى أن الإنسان حين يجادل في قضية، ويرى عند خَصْمه لدداً وعناداً في الباطل، لا يطيل معه الكلام حتى لا يُؤصِّل فيه العناد، ويدعوه إلى كبرياء الغَلَبة ولو بالباطل. لذلك، فالحق - تبارك وتعالى - يُعلِّم المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنْ أرادوا البحث في أمره صِدْقاً أو كذباً والعياذ بالله، أنْ يبحثوه مَثْنى أو فُرَادى، ولا يبحثوه بَحْثاً جماهيرياً غوغائياً لأن العمل الغوغائي بعيد عن الموضوعية يستتر فيه الواحد في الجماعة، وقد يحدث ما لا تُحمد عُقباه ولا يعرفه أحد. والغوغائية لا يحكمها عقل ولا منطق، والجمهور كما يقولون: عقله في أذنيه. وسبق أن قلنا: إن كليوباترا حين هُزِمت وحليفها صَوّروا هذه الهزيمة على أنها نصر، كما حدث كثيراً على مَرِّ التاريخ، وفيها يقول الشاعر:
أسْمَعُ الشَّعْب دُيُونُ   كيْفَ يُوحُونَ إليْه
مَلأَ الجوَّ هِتافاً   بحياتيْ قاتِليْه
أثَّر البُهتانُ فيه   وَانْطلَى الزُّورُ عليْه
يَالَهُ مِنْ بَبَّغَاءٍ   عقلُه في أُذُنيْه
إذن: فالجمهرة لا تُبدي رأياً، ولا تصل إلى صواب. يقول الحق سبحانه للمعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم:قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ.. } [سبأ: 46]. فبَحْث مثل هذا الأمر يحتاج إلى فرديْن يتبادلان النظر والفِكْر والدليل ويتقصَّيان المسألة، فإنْ تغلّب أحدهما على الآخر كان الأمر بينهما دون ثالث يمكن أنْ يشمتَ في المغلوب، أو يبحثه فرد واحد بينه وبين نفسه فينظر في شخص رسول الله، وما هو عليه من أدب وخُلق، وكيف يكون مع هذا مجنوناً؟ وهل رأينا عليه أمارات الجنون؟ والذين قالوا عنه: ساحر لماذا لم يسحرهم كما سحر التابعين له؟ إذن: لو أدار الشخص الواحد هذه الحقائق على ذِهْنه، واستعرض الآراء المختلفة لاهتدى وحده إلى الصواب، فالاعتزال أمر مطلوب إنْ وجد الإنسان البيئة غير صالحة لنقاش الباطل مع الحق لا نُؤصِّل الجدل والعناد في نفس الخَصْم. لذلك يقول تعالى:إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ قَالْوۤاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا.. } [النساء: 97]. أي: كانت الفرصة أمامكم لتتركوا هذه البُقْعة إلى غيرها من أرض الله الواسعة، وكأن الحق - تبارك وتعالى - يُلفت نظرنا إلى أن الأرض كلها أرض الله، فأرض الله الواسعة ليست هي مصر أو سوريا أو ألمانيا، بل الأرض كلها بلا حواجز هي أرض الله، فمَنْ ضاق به مكانٌ ذهب إلى غيره لا يمنعه مانع، وهل يوجد هذا الآن؟ هل تستطيع أن تخترق هذه الحواجز ودونها نظم وقوانين ما أنزل الله بها من سلطان.

السابقالتالي
2