الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يٰإِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَٱهْجُرْنِي مَلِيّاً }

الفعل رغب يحمل المعنى وضده حَسْب حرف الجر بعده، نقول: رغب في كذا. أي: أحبه وذهب إليه، ورَغب عن كذا أي: كرهه واعتزله، فمعنى { أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يٰإِبْرَاهِيمُ.. } [مريم: 46] أي: تاركها إلى غيرها، كما جاء في قوله تعالى:وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ.. } [البقرة: 130] أي: تركها إلى مِلَّة أخرى. ونلاحظ أن الفعل رَغِب لم يأْتِ مقترناً بعده بفي إلا مرة واحدة، وإنْ كانت في مُقدَّرة بعد الفعل، وهذا في قوله تعالى عن نكاح يتامى النساء:وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ.. } [النساء: 127]. والرغبة في الشيء تعني حُبه وعِشْقه، والرغبة في الطريق الموصّل إليه، إلا أنك لم تسلك هذا الطريق بالفعل، ولم تأخذ بالأسباب التي تُوصّلك إلى ما ترغب فيه، وهذا المعنى واضح في قصة أصحاب الجنة في سورة ن حيث يقول تعالى:إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلاَ يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَٱلصَّرِيمِ } [القلم: 17-20]. فقد اتفقوا على قَطْف ثمار بستانهم في الصباح، ولم يقولوا: إن شاء الله، فدمّرها الله وأهلكها وهم نائمون، وفي الصباح انطلقوا إلى جنتهم وهم يقولون فيما بينهم:لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ٱلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ } [القلم: 24]. وهكذا قطعوا الطريق على أنفسهم حينما حَرَمُوا المسكينفَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوۤاْ إِنَّا لَضَآلُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } [القلم: 26-27] ثم تنبهوا إلى ما وقعوا فيه من خطأ، وعادوا إلى صوابهم فقالوا:عَسَىٰ رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ } [القلم: 32]. أي: راغبون في الطريق الموصّل إليه تعالى، فقبل أنْ تقول: أنا راغب في الله. قل: أنا راغب إلى الله، فالمسألة ليست حُباً فقط بل حُباً بثمن وسَعْي وعَمل يُوصِّلك إلى ما تحب. إذن: قبل أنْ تكونوا راغبين في ربكم ارغبوا إليه أولاً. وفي موضع آخر يقول تعالى:وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي ٱلصَّدَقَاتِ.. } [التوبة: 58] أي: يعيبك في توزيعهافَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } [التوبة: 58] فهم - إذن - لا يحبون الله، وإنما يحبون العطاء والعَرَض الزائل، بدليل أنهم لما مُنِعُوا سخطوا وصرفوا نظرهم عن دين الله كمَنْ قال الله فيهم:وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ.. } [الحج: 11]. لذلك يُعدِّل لهم الحق سبحانه سلوكهم، ويرشدهم إلى المنهج القويم:وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ سَيُؤْتِينَا ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى ٱللَّهِ رَاغِبُونَ } [التوبة: 59] أي: آخذين الوسيلة الموصِّلة إليه، فالذي يرغب في حب الله عليه أنْ يرغبَ في الطريق الموصّل إليه.

السابقالتالي
2