الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً }

هذا هو النداء، أو الدعاء الذي دعا به زكريا عليه السلام: { رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي.. } [مريم: 4] ويرد في الدعاء أن نقول: يا رب. أو نقول: يا الله، فقال زكريا رب أي: يا رب لأنه يدعو بأمر يتعلق بعطاء الربوبية الذي يشمل المؤمن والكافر، إنه يطلب الولد، وهذا أمر يتعلق ببنية الحياة وصلاحها للإنجاب، وهذه من عطاء الرب سبحانه وتعالى، وإن كانت العلقة في طلب الولد إلهية، وهي أنْ يحمل المنهج من بعد أبيه. فكأن زكريا عليه السلام دعا ربه: يا ربّ يا مَنْ تعطي مَنْ آمن بك، وتعطي مَنْ كفر، يا مَنْ تعطي مَنْ أطاع، وتعطي مَنْ عصى، حاشاك أن تمنع عطاءك عمَّن أطاعك ويدعو الناس إلى طاعتك. أما الدعاء بالله ففي أمور العبادة والتكليف. ثم يُقدِّم زكريا عليه السلام حيثيات هذا المطلب: { رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي.. } [مريم: 4] والوَهَن هو الضعف، وقال: { وَهَنَ ٱلْعَظْمُ.. } [مريم: 4] لأن لكل شيء قواماً في الصلابة والقوة، فمثلاً الماء له قوام معروف والدُّهْن له قوام، واللحم له قوام، والعصب والعظم وكل عناصر تكوين الإنسان، والعَظْم هو أقوى هذه الأشياء، والعَظْم في بناء الجسم البشري مثل الشاسيه في لغة العصر الحديث، وعلى العظم يبنى جسم الإنسان من لحم ودم وعصب، فإذا أصاب العظام - وهي أقوى العناصر - ضعفٌ ووهنٌ فغيرها من باب أَوْلى. لذلك، فإن الرجل العربي حينما شكا الجدب والقحط ماذا قال؟ قال: مرَّتْ بنا سنون صعبة: فَسنة أذابتْ الشحم - أي: بعد الجوع وعدم الطعام - وسنة أذهبت اللحم - أي: بعد أن أنهت الشحم - وسنة محَّت العظم. فكأن العَظْم هو آخر مخزن من مخازن القوت في جسم الإنسان ساعة أن ينقطع عنه الطعام والشراب. والعظم في هذه الحالة يُوجِّه غذاءه للمخ خاصة لأنه ما دام في المخ بقية قبول حياة فما حدث للجسم من تلف قابل للإصلاح والعودة إلى طبيعته، إذن: فسلامة الإنسان مرتبطة بسلامة المخ. لذلك نجد الأطباء في الحالات الحرجة يُركِّزون اهتمامهم على سلامة المخ، ويرتبون عليه حياة الإنسان أو موته، حتى إن توقف القلب فيمكنهم بالتدليك إعادته إلى حالته الطبيعية، أما إنْ توقف المخ فهذا يعني الموت. فكأن نبي الله زكريا - عليه السلام - يقول: يا رب ضعف عظمي، ولم يَعُدْ لديَّ إلا المصدر الأخير لاستبقاء الحياة. ولما كان العظم شيئاً باطناً مدفوناً تحت الجلد، فهو حيثية باطنة، فأراد زكريا عليه السلام أنْ يأتيَ بحيثية أخرى ظاهرة بينة، فأتى بأمر واضح: { وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً.. } [مريم: 4] فشبّه انتشار الشيب في رَأْسه باشتعال النار، فالشعر الأبيض الذي يعلوه واضح كالنار.

السابقالتالي
2