الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً }

كما قال الحق سبحانه لزكريا حينما تعجَّبَ أنْ يكون له ولد:قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ.. } [مريم: 9] أي: أنا أعرف ما أنت فيه من كِبَر السن، وأن امرأتك عاقر لا تلِد، لكن الأمر جاء من الله وصدر حكمه، وهو وحده الذي يملك التنفيذ، فَلِمَ التعجب إذن؟ وهنا نجد بعض المتورِّكين على القرآن يعترضون على قوله تعالى: كَذَلِكَ بالفتح في قصة زكريا وبالكسر في قصة مريم كذلكِ، والسياق والمعنى واحد، وأيُّهما أبلغ من الأخرى، وإنْ كانت أحدهما بليغة فالأخرى غير بليغة؟ وهذا الاعتراض منهم ناتج عن قصور فَهْمهم لكلام الله، فكلمة كذلك عبارة عن ذا اسم إشارة، وكاف الخطاب التي تُفتح في خطاب المذكر، وتُكسر في خطاب المؤنث. وهنا أيضاً قال: ربك أي: الذي يتولى تربيتك ورعايتك، والذي يُربيه ربُّه يربيه تربية كاملة تعينه على أداء مهمته المرادة للمربِّي. وقوله: { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ.. } [مريم: 21] كما قال في مسألة البعث بعد الموت:وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ.. } [الروم: 27] فكلمة هيّن وأَهْوَن بالنسبة للحق - تبارك وتعالى - لا تُؤخَذ على حقيقتها لأن هَيِّن وأهوَنَ تقتضي صعب وأصعب، وهذه مسائل تناسب فِعْلَ الإنسان في معالجته للأشياء على قَدْر طاقته وإمكاناته، أما بالنسبة للخالق سبحانه فليس عنده هَيِّن وأهون منه لأنه سبحانه لا يفعل الأفعال مُعَالجةً، ولا يزاولها، وإنما بقوله تعالى كُنْ. فالحق سبحانه يخاطبنا على قَدْر عقولنا، فقوله: { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ.. } [مريم: 21] أي: بمنطقكم أنتم إنْ كنت قد خَلقْتكم من غير شيء، فإعادتكم من شيء موجود أمر هَيِّن. ثم يقول تعالى: { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا.. } [مريم: 21]. هل كان الغرض من خَلْق عيسى عليه السلام على هذه الصورة أن يُظهِر الحق سبحانه قدرته في الخلق وطلاقة قدرته فقط؟ لا، بل هناك هدف آخر { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ.. } [مريم: 21] أي: أمراً عجيباً، يخرج عن مألوف العادة والأسباب، كما نقول: هذا آية في الحُسْن، آية في الذكاء، فالآية لا تُقال إلا للشيء الذي يخرج عن معتاد التناول. والآية هنا أن الخالق - تبارك وتعالى - كما خلق آدم - عليه السلام - من غير أب أو أم، وخلق حواء من غير أم، خلق عيسى - عليه السلام - من أم دون أب، ثم يخلقكم جميعاً من أب وأم، وقد يوجد الأب والأم ولا يريد الله لهما فيجعل مَنْ يشاء عقيماً. إذن: فهذا الأمر لا يحكمه إلا إرادة المكوِّن سبحانه. فالآية للناس في أنْ يعلموا طلاقة قدرته تعالى في الخَلْق، وأنها غير خاضعة للأسباب، وليستْ عملية ميكانيكية، بل إرادة للخالق سبحانه أن يريد أو لا يريد.

السابقالتالي
2