الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً }

فإذا كانت القيامة تركناهم يموج بعضهم في بعض، كموج الماء لا تستطيع أن تفرق بعضهم من بعض، كما أنك لا تستطيع فصل ذرات الماء في الأمواج، يختلط فيهم الحابل بالنابل، والقويّ بالضعيف، والخائف بالمخيف، فهم الآن في موقف القيامة، وقد انتهت العداوات الدنيوية، وشُغِل كل إنسان بنفسه. وقوله تعالى: { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً } [الكهف: 99]. وهذه هي النفخة الثانية لأن الأولى نفخة الصَّعْق، كما قال تعالى:وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [الزمر: 68]. فالنفخة الأولى نفخة الصَّعْق، والثانية نفخة البَعْث والقيامة، والصَّعْق قد يكون مميتاً، وقد يكون مُغْمِياً لفترة ثم يفيق صاحبه، فالصَّعْق المميت كما في قوله تعالى:وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّىٰ حِينٍ * فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ } [الذاريات: 43-44]. أما الصَّعْقة التي تُسبِّب الإغماء فهي مِثْل التي حدثت لموسى - عليه السلام - حينما قال:قَالَ رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الأعراف: 143]. فالجبل الأشمّ الراسي الصَّلْب اندكّ لما تجلَّى له الله، وخر موسى مصعوقاً مُغمى عليه، وإذا كان موسى قد صُعِق من رؤية المتجلَّى عليه، فكيف برؤية المتجلِّي سبحانه؟ وكأن الحق سبحانه أعطى مثلاً لموسى - عليه السلام - فقال له: ليست ضنيناً عليك بالرؤية، ولكن قبل أن تراني انظر إلى الجبل أولاً ليكون لك مثالاً، إذن: لا يمنع القرآن أن يتجلى الله على الخَلْق، لكن هل نتحمل نحن تجلِّي الله؟ فمن رحمة الله بنا ألاَّ يتجلى لنا على الحالة التي نحن عليها في الدنيا. أما في الآخرة، فإن الخالق سبحانه سيُعِدّنا إعداداً آخر، وسيخلقنا خِلْقة تناسب تجلِّيه سبحانه على المؤمنين في الآخرة لأنه سبحانه القائل:وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة: 22-23]. وسوف نلحظ هذا الإعداد الجديد في كُلِّ أمور الآخرة، ففيها مثلاً تقتاتون ولا تتغوطون لأن طبيعتكم في الآخرة غير طبيعتكم في الدنيا. لذلك جاء السؤال من موسى - عليه السلام - سؤالاً علمياً دقيقاً:رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ.. } [الأعراف: 143] أي: أرِني كيفية النظر إليك لأني بطبيعتي وتكويني لا أراك، إنما إنْ أريتني أنت أرى. وفي ضوء هذه الحادثة لموسى - عليه السلام - نفهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تُخيِّروا بين الأنبياء، فإن الناس يُصْعقون يوم القيامة، فأكون أولَ مَنْ تنشقُّ عنه الأرض، فإذا أنا بموسى آخذٌ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أكان فيمن صُعِق، أم حُوسِب بصَعْقة الأولى ". قالوا: لأنه صُعِق مرة في الدنيا، ولا يجمع الله تعالى على عبده صَعقتَيْن. ثم يقول الحق سبحانه: { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ... }.