الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً }

كأن موسى عليه السلام يُعلِّمنا أدب تلقّي العلم وأدب التلميذ مع معلمه، فمع أن الله تعالى أمره أن يتبع الخضر، فلم يقُل له مثلاً: إن الله أمرني أن أتبعك، بل تلطّف معه واستسمحه بهذا الأسلوب: { هَلْ أَتَّبِعُكَ.. } [الكهف: 66]. والرشد: هو حُسْن التصرّف في الأشياء، وسداد المسلك في علة ما أنت بصدده، وسبق أن قلنا: إن الرُّشْد يكون في سنِّ البلوغ، لكن لا يعني هذا أن كل مَنْ بلغ يكون راشداً، فقد يكون الإنسان بالغاً وغير راشد، فقد يكون سفيهاً. لذلك لما تكلم الحق سبحانه عن اليتامى قال:وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ.. } [النساء: 6] أي: اختبروهم، واختبار اليتيم يكون حال يُتْمه وهو ما يزال في كفالتك، فعليك أنْ تكلّفه بعمل ما لإصلاح حاله، وتعطيه جزءاً من ماله يتصرَّف فيه تحت عينك وفي رعايتك، لترى كيف سيكون تصرفه. عليك أنْ تحرص على تدريبه لمواجهة الحياة، لا أن تجعله في مَعْزل عنها إلى أنْ يبلغَ الرشْد، ثم تدفع إليه بماله فلا يستطيع التصرف فيه لعدم خبرته، وإنْ فشل كانت التجربة في ماله والخسارة عليه. إذن: فاختبار اليتيم يتمُّ وهو ما يزال في ولايتك، وتحت سمعك وبصرك رعاية لحقه.حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ.. } [النساء: 6] وهو سن البلوغ، ولم يقُلْ بعدها: فادفعوا إليهم أموالهم لأن بعد البلوغ شرطاً آخرفَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً.. } [النساء: 6] فعلى الوصيّ أنْ يُراعِيَ هذا الترتيب: أنْ تُراعي اليتيم وهو تحت ولايتك، وتدفع به في مُعْتَرك الحياة وتجاربها حتى يتمكن من مواجهة الحياة ولا يتخبط في ماله لعدم تجربته وخبرته، فإن علمت رشده بعد البلوغ فادفع إليه بماله ليتصرف فيه، فإن لم تأنسْ منه الرشد وحُسْن التصرف فلا تترك له المال يُبدّده بسوء تصرفه. لذلك يقول تعالى في هذا المعنى:وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ.. } [النساء: 5] ولم يقُلْ: أموالهم لأن السفيه لا مالَ له حال سَفَهه، بل هو مالكم لِتُحسِنوا التصرف فيه وتحفظوه لصاحبه لحين تتأكدون من رُشْده. إذن: فالرشد الذي طلبه موسى من العبد الصالح هو سداد التصرف والحكمة في تناول الأشياء، لكن هل يعني ذلك أن موسى - عليه السلام - لم يكن راشداً؟ لا، بل كان راشداً في مذهبه هو كرسول، راشداً في تبليغ الأحكام الظاهرية. أما الرشد الذي طلبه فهو الرشد في مذهب العبد الصالح، وقد دلّ هذا على أنه طلب شيئاً لم يكن معلوماً له، وهذا لا يقدح في مكانة النبوة لأن الحق سبحانه وتعالى قال:وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [الإسراء: 85]. وقال للنبي صلى الله عليه وسلم:وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } [طه: 114]. لذلك يقول الشاعر:

السابقالتالي
2