الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً }

نزلتْ هذه الآية في " أهل الصُّفَّة " وهم جماعة من أهل الله انقطعوا للعبادة فتناولتهم ألسنة الناس واعترضوا عليهم، لماذا لا يعملون؟ ولماذا لا يشتغلون كباقي الناس؟ بل وذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: نريد أن تلتفت إلينا، وأن تترك هؤلاء المجاذيب، فأنزل الله تعالى: { وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم.. } [الكهف: 28]. لذلك علينا حينما نرى مثل هؤلاء الذين نُسمِّيهم المجاذيب الذين انقطعوا لعبادة الله أن لا نحتقرهم، ولا نُقلِّل من شأنهم أو نتهمهم لأن الله تعالى جعلهم موازين للتكامل في الكون، ذلك أن صاحب الدنيا الذي انغمس فيها وعاش لها وباع دينه من أجل دُنْياه حينما يرى هذا العابد قد نفض يديه من الدنيا، وألقاها وراء ظهره، وراح يستند إلى حائط المسجد مُمدّداً رجلاً، لا تعنيه أمور الدنيا بما فيها. ومن العجيب أن صاحب الدنيا هذا العظيم صاحب الجاه تراه إنْ أصابه مكروه أو نزلتْ به نازلة يُهْرَع إلى هذا الشيخ يُقبّل يديه ويطلب منه الدعاء، وكأن الخالق سبحانه جعل هؤلاء المجاذيب ليرد بهم جماح أهل الدنيا المنهمكين في دوامتها المغرورين بزهرتها. وأيضاً، كثيراً ما ترى أهل الدنيا في خِدْمة هؤلاء العباد، ففي يوم من الأيام قُمْنا لصلاة المغرب في مسجد سيدنا الحسين، وكان معنا رجل كبير من رجال الاقتصاد، فإذا به يُخرج مبلغاً من المال ويطلب من العامل صرفه إلى جنيهات، فأتى العامل بالمبلغ في صورة جنيهات من الحجم الصغير، فإذا برجل الاقتصاد الكبير يقول له: لا، لا بُدَّ من جنيهات من الحجم الكبير لأن فلاناً المجذوب على باب الحسين لا يأخذ إلا الجنيه الكبير، فقلت في نفسي: سبحان الله مجذوب على باب المسجد ويشغل أكبر رجل اقتصاد في مصر، ويحرص الرجل على إرضائه ويعطيه ما يريد. ثم يقول تعالى: { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ.. } [الكهف: 28] أي: اجعل عينيك فيهم، ولا تصرفها عنهم إلى غيرهم من أهل الدنيا لأن مَدد النظرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم زاد للمؤمن { تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا.. } [الكهف: 28] لأنك إنْ فعلتَ ذلك وانصرفتَ عنهم، فكأنك تريد زينة الحياة الدنيا وزخارفها. وفي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بملازمة أهل الصُّفَّة وعدم الانصراف عنهم إلى أهل الدنيا ما يُقوِّي هؤلاء النفر من أهل الإيمان الذين جعلوا دَيْدنهم وشاغلهم الشاغل عبادة الله والتقرُّب إليه. لكن، هل المطلوب أن يكون الناس جميعاً كأهل الصُّفَّة منقطعين للعبادة؟ بالطبع لا، فالحق سبحانه وتعالى جعلهم بين الناس قِلّة، في كل بلد واحد أو اثنان ليكونوا أُسْوة تُذكِّر الناس وتكبح جماح تطلّعاتهم إلى الدنيا.

السابقالتالي
2