الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً }

و عَسَى حَرْف يدلّ على الرجاء، وكأن في الآية إشارةً إلى أنهم سيظلون في مذلّة ومَسْكنة، ولن ترتفع لهم رأس إلا في ظِلِّ حبل من الله وعَهْد منه، وحبل من الناس الذين يُعاهدونهم على النُّصْرة والتأييد والحماية. وقوله: { رَبُّكُمْ.. } [الإسراء: 8]. انظر فيه إلى العظمة الإلهية، ورحمة الرب سبحانه الذي ما يزال يخاطب الكافرين الملحدين المعاندين لرسوله، وهو آخر رسول يأتي من السماء، ومع ذلك كله يخاطبهم بقوله: { رَبُّكُمْ.. } [الإسراء: 8]. لأن الربّ هو المتولّي للتربية والمتكفّل بضمان مُقوّمات الحياة، لا يضنّ بها حتى وإنْ كان العبد كافراً، فالكلُّ أمام عطاء الربوبية سواء: المؤمن والكافر، والطائع والعاصي. الجميع يتمتع بِنعَم الله: الشمس والهواء والطعام والشراب، فهو سبحانه لا يزال ربَّهم مع كل ما حدث منهم. وقوله تعالى: { أَن يَرْحَمَكُمْ.. } [الإسراء: 8]. والرحمة تكون للإنسان إذا كان في موقف يستحق فيه الرحمة، واليهود لن تكون لهم دولة، ولن يكون لهم كيان، بل يعيشون في حِضْن الرحمة الإيمانية الإسلامية التي تُعطي لهم فرصة التعايش مع الإسلام معايشة، كالتي كانت لهم في مدينة رسول الله، يوم أن أكرمهم وتعاهد معهم. وقد وصلتْ هذه المعايشة لدرجة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أنْ يقترضَ لا يقترض من مسلم، بل كان يقترض من اليهود، وفي هذا حكمة يجب أنْ نعيهَا، وهي أن المسلم قد يستحي أن يطالب رسول الله إذا نسى مثلاً، أما اليهودي فسوف يُلِحّ في طلب حقِّه وإذا نسى رسول الله سَيُذكّره. لذلك كان اليهود كثيراً ما يجادلون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُغالطونه مِرَاراً، وقد حدث أن وفَّى رسول الله لأحدهم دَيْنه، لكنه أنكره وأتى يطالب به من جديد، وأخذ يراجع رسول الله ويغالطه وينكر ويقول: ابْغِني شاهداً. ولم يكن لرسول الله شاهد وقت السداد، وهكذا تأزّم الموقف في حضور أحد الصحابة، واسمه خزيمة، فهَبَّ خزيمة قائلاً: أنا يا رسول الله كنت شاهداً، وقد أخذ هذا اليهودي دَيْنه، فسكت اليهودي ولم يرد ولم يجادل، فَدل ذلك على كذبه. ويكاد المريب أن يقول: خذوني. لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما اختلى بخزيمة بعد أن انصرف الدائن قال: يا خزيمة ما حملك على هذا القول، ولم يكن أحد معنا، وأنا أقضي لليهودي دَيْنه؟ فضحك خزيمة وقال: يا رسول الله أَأُصدِّقُك في خبر السماء، وأُكذِّبك في عِدّة دراهم؟ فَسُرَّ رسول الله من اجتهاد الرجل، وقال: " مَنْ شهد له خزيمة فحَسْبه ". ثم يُهدِّد الحق سبحانه بني إسرائيل، فيقول: { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا.. } [الإسراء: 8]. إنْ عُدتُّم للفساد، عُدْنا، وهذا جزاء الدنيا، وهو لا ينجيكم من جزاء الآخرة، فهذه مسألة وتلك أخرى حتى لا يفهموا أن العقاب على الذنوب في الدنيا يُبرّئهم من عذاب الآخرة.

السابقالتالي
2 3