الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَن كَانَ فِي هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً }

وهذا هو المقابل لمن أخذ كتابه بيمينه لأنه عميتْ بصيرته في الدنيا فعمى في الآخرة، وطالما هو كذلك فلا شَكَّ أنه من أهل الشمال، فالآيات ذكرتْ مرة السبب، وذكرتْ مرة المسبّب، ليلتقي السبب والمسبب، وهو ما يعرف باسم [الاحتباك] البلاغي. فكأن الحق سبحانه قال: إن مَنْ أُوتِي كتابه بيمينه وقرأه وتباهى به لم يكُنْ أعمى في دنياه، بل كان بصيراً واعياً، فاهتدى إلى منهج الله وسار عليه، فكانت هذه نهايته وهذا جزاءه. أما مَنْ أوتي كتابه بشماله فقد كان أعمى في الدنيا عمى بصيرة لا عمى بصر لأن عمى البصر حجب الأداة الباصرة عن إدراك المرائي، والكافرون في الدنيا كانوا مُبصرين للمرائي من حولهم. مُدركين لماديات الحياة، أما بصيرتهم فقد طُمِس عليها فلا ترى خيراً، ولا تهتدي إلى صلاح. وسبق أن قلنا: إن الإنسان لكي يسير في رحلة الحياة على هدى لا بُدَّ له من بصر يرى به المرائي المادية، حتى لا يصطدم بأقوى منه فيتحطم أو بأضعف منه فيحطمه، والبصر للمؤمن والكافر من عطاء الربوبية للإنسان. لكن إلى جانب البصر هناك عطاء آخر هو ثمرة من ثمار عطاء الألوهية الذي لا يكون إلا للمؤمن، ألا وهو البصيرة، بصيرة القيم التي يكتسبها الإنسان من منهج الله الذي آمن به وسار على هَدْيه. وقوله: { فَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلا } [الإسراء: 72]. إنْ كان عماه في الدنيا عمى بصيرة، فَعَماه في الآخرة عمى بصر لأن البصيرة مطلوبة منه في الدنيا فقط لأن بها سيُعرف الخير من الشر، وعليها يترتب العمل، وليست الآخرة مجال عمل، إذن: العمى في الآخرة عمى البصر، كما قال تعالى في آية أخرى:فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ } [طه: 123-124]. وقال عنهم في آية أخرى:وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّا.. } [الإسراء: 97]. لكن قد يقول قائل: هناك آيات أخرى تثبت لهم الرؤية في الآخرة، مثل قوله تعالى:حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ.. } [مريم: 75]. وقوله تعالى:وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا.. } [الكهف: 53]. وللجمع بين هذه الآيات وللتوفيق بينها نقول: للكفار يوم القيامة في مجال الرؤية البصرية حالتان: الأولى عند القيام وهَوْل المحشر يكونون عُمْياً وبُكْماً وصُمّاً لتزداد حَيْرتهم ويشتد بهم الفزع حيث هم في هذا الكرب الشديد، ولكن لا يعرف ما يحدث ولا أين المهرب، ولا يستمعون من أحد كلمة، وهكذا هم في كَرْب وحَيْرة لا يدرون شيئاً. وهذه حالة العمى البصري عندهم. أما الحالة الثانية وهي الرؤية، فتكون عندما يتجلى الحق تبارك وتعالى لأهل الموقف ويكشف الغطاء عن نفسه سبحانه، فهنا يصير الكافر حَادّ البصر، ليرى مكانه من النار.

السابقالتالي
2