الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً }

{ قَالَ } أي: إبليس { أَرَأَيْتَكَ } الهمزة للاستفهام، والتاء للخطاب، وكذلك الكاف، وجمع بينهما في الخطاب للتأكيد، كما تقول: أنت أنت تفعل ذلك. والمعنى: أخبرني، لأن رأي البصرية تُطلق في القرآن على معنى العلم لأن علم العين علم مُؤكّد لا شكَّ فيه. لذلك قالوا: ليس مع العين أَيْن فما تراه أمامك عياناً، وإنْ كان للعلم وسائل كثيرة فأقواها الرؤية لأنها تعطي علماً مؤكداً على خلاف الأذن مثلاً، فقد تسمع بها كلاماً تعرف بعد ذلك أنه كذب. وقد ورد هذا المعنى في قَوْل الحق سبحانه:أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ } [الفيل: 1]. واستخدم الفعل ترى، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في عام الفيل وليداً لم يَرَ شيئاً، فالمعنى: ألم تعلم، ولكن الحق سبحانه عدل عن " تعلم " إلى " تَرَ " كأنه يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: إذا أخبرك الله بمعلوم، فاجعل إخبار الله لك فوق رؤيتك بعينك. فقوله تعالى: { أَرَأَيْتَكَ هَـٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ.. } [الإسراء: 62] أي: أعلمني، لماذا فضلته عليَّ، وكأن تفضيل آدم على إبليس مسألة تحتاج إلى برهان وتبرير، وكان على إبليس أن ينتظر إجابة هذا السؤال الذي توجه به لربّه عَزَّ وجل، ولكنه تعجَّل وحمله الغيظ والحسد على أن يقول: { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً } [الإسراء: 62]. وهذا لأن حقده وعداوته لآدم مُسْبقة فلم ينتظر الجواب. ومعنى: { أَخَّرْتَنِ } أخَّرت أجلي عن موعده، كأنه يعلم أن الله يجعل لكل نفس منفوسة من إنس أو جنٍّ أجلاً معلوماً، فطلب أنْ يُؤخِّره الله عن أجله، وهذه مبالغة منه في اللدد والعناد، فلم يتوعدهم ويُهدّدهم مدة حياته هو، بل إلى يوم القيامة، فإن كانت البداية مع آدم فلن ينجو ولن تنجو ذريته أيضاً. فالعداوة بين إبليس وآدم، فما ذنب ذريته من بعده؟ لقد كان عليه أن يقصر هذا الحقد، وهذه العداوة على آدم، ثم يوصي ذريته بحمل هذا العداء من بعده، إنه الغيظ الدفين الذي يملأ قلبه. وقد أمهله الحق سبحانه بقوله:إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ } [الأعراف: 15]. ومعنى: { لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ.. } [الإسراء: 62] اللام للقسم، كما أقسم في آية أخرى:فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ص: 82]. وعجيب أمر إبليس، يقسم بالله وهو يعلم أن العمر والأجل بيده سبحانه، فيسأله أن يُؤخّره، ومع ذلك لا يطيع أمره. والاحتناك: يَرِد بمعنيين: الأول: الاستئصال. ومنه قولهم: احتنك الجراد الزرع. أي: أتى عليه كله واستأصله، والآخر: بمعنى القهر على التصرف، مأخوذ من اللجام الذي يُوضَع في حنَك الفرس، ويسمونه الحنكة وبها تستطيع أن تُوجّه الفرس يميناً أو يساراً أو تُوقِفه، فهي أداة التحكّم فيه، والسيطرة عليه قَهْراً.

السابقالتالي
2