الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً }

هذا في يوم القيامة، حيث لا يستطيع أحدٌ الخروجَ عن مُرادات الحق سبحانه بعد أن كان يستطيع الخروج عنها في الدنيا لأن الخالق سبحانه حين خلق الخَلْق جعل للإرادة الإنسانية سلطاناً على الجوارح في الأمور الاختيارية، فهو مُخْتَار يفعل ما يشاء، ويقول ما يشاء، ويترك ما يشاء، فإرادته أمير على جوارحه، أما الأمور القهرية فلا دَخْل للإرادة بها. فإذا جاء اليوم الآخر انحلَّتْ الإرادة عن الجوارح، ولم يَعُدْ لها سلطان عليها، بدليل أن الجوارح سوف تشهد على صاحبها يوم القيامة:وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ.. } [فصلت: 21]. لقد كانت لكم وَلاَية علينا في دُنْيا الأسباب، أما الآن فنحن جميعاً مرتبطون بالمسبِّب سبحانه، فلا ولاية لكم علينا الآن لذلك يقول الحق تبارك وتعالى عن يوم القيامة:لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر: 16]. ففي الدنيا ملَّك الناس، وجعل مصالح أُناسٍ في أيدي آخرين، أما في الآخرة، فالأمر كله والملْك كله لله وحده لا شريك له. فقوله تعالى: { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ.. } [الإسراء: 52] أي: يقول لكم اخرجوا من القبور للبعث بالنفخة الثانية في الصُّور { فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ.. } [الإسراء: 52] أي: تقومون في طاعة واستكانة، لا قوْمةَ مُسْتنكف أو مُتقاعس أو مُتغطرس، فكلّ هذا انتهى وقته في الدنيا، ونحن الآن في الآخرة. ونلاحظ أن الحق سبحانه قال: { فَتَسْتَجِيبُونَ.. } [الإسراء: 52] ولم يقل: فتُجيبون لأن استجاب أبلغُ في الطاعة والانصياع، كما نقول: فهم واستفهم أي: طلب الفَهْم، وكذلك { فَتَسْتَجِيبُونَ } أي: تطلبون أنتم الجواب، وتُلحُّون عليه لا تتقاعسون فيه، ولا تتأبَّوْن عليه، فتُسرعون في القيام. ليس هذا وفقط، بل: { فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ.. } [الإسراء: 52] أي: تُسرِعون في القيام حامدين الله شاكرين له، ولكن كيف والحمد لا يكون إلا على شيء محبوب؟ نعم، إنهم يحمدون الله تعالى لأنهم عاينوا هذا اليوم الذي طالما ذكَّرهم به، ودعاهم إلى الإيمان به، والعمل من أجله، وطالما ألحَّ عليهم ودعاهم، ومع ذلك كله جحدوا وكذَّبوا، وها هم اليوم يَروْنَ ما كذَّبوه وتتكشّف لهم الحقيقة التي أنكروها، فيقومون حامدين لله الذي نبَّههم ولم يُقصِّر في نصيحتهم. كما أنك تنصح ولدك بالمذاكرة والاجتهاد، ثم يخفق في الامتحان فيأتيك معتذراً: لقد نصحتني ولكني لم أستجبْ. إذن: فبيانُ الحق سبحانه لأمور الآخرة من النِّعَم التي لا يعترف بها الكفار في الدنيا، ولكنهم سيعترفون بها في الآخرة، ويعرفون أنها من أعظم نِعَم الله عليهم، ولكن بعد فوات الأوان. لذلك اعترض المستشرقون على قوله تعالى في سورة الرحمن:فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 34] بعد قوله تعالى:يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ }

السابقالتالي
2