الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ ٱلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيباً }

قوله تعالى: { أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ.. } [الإسراء: 51] أي: هاتوا الأعظم فالأعظم، وتوغّلوا في التحدِّي والبُعْد عن الحياة، فأنا قادر على أنْ أهبَ له الحياة مهما كان بعيداً عن الحياة على إطلاقها. وقوله: { مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ.. } [الإسراء: 51]. يكبر: أي يعظُم مِنْ كَبُر يكْبُر. ومنه قوله تعالى:كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ.. } [الكهف: 5] أي: عَظُمت. والمراد: اختاروا شيئاً يعظم استبعادُ أن يكون فيه حياة بعد ذلك، وغاية ما عندهم في بيئتهم الحجارة والحديد، فَهُما أبعد الأشياء عن الحياة، وقد اتفقوا على ذلك فليس في محيط حياتهم ما هو أقسى من الحجارة والحديد. ولكن الحق سبحانه وتعالى ارتقى بهم في فَرْضية الأمر إلى أنْ يختاروا وتجتمع نفوسهم على شيء، يكون أعظمَ استبعاداً من الحجارة والحديد. ونلاحظ في قوله تعالى: { مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ.. } [الإسراء: 51] جاء هذا الشيء مُبْهَماً لأن الشيء العظيم الذي يعظُم عن الحجارة والحديد استبعاداً عن أصل الحياة مختلفٌ فيه، فإن اتفقوا في أمر الحجارة والحديد فقد اختلفوا في الأشياء الأخرى، فجاءت الآية مُبْهمة ليشيع المعنى في نفس كل واحد كُلّ على حَسْب ما يرى. بدليل أنهم حينما سألوا الإمام علياً - رضي الله عنه، وكرّم الله وجهه - عن أقوى الأجناس في الكون، وقد علموا عن الإمام عليّ سرعة البديهة والتمرُّس في الفُتْيَا، فأرادوا اختباره بهذا السؤال الذي يحتاج في الإجابة عليه إلى استقصاء لأجناس الكون وطبيعة كل منها. دخل عليهم الإمام علي وهم مختلفون في هذه المسألة، منهم من يقول: الحديد أقوى. ومنهم من يقول: بل الحجارة. وآخر يقول: بل الماء، فأفتاهم الإمام في هذه القضية، وانظر إلى دِقّة الإفتاء واستيعاب العلم، فلم يَقُل: أقوى جنود الله كذا وكذا ثم يكمل كما اتفق له ويذكر ما يخطر بباله، لا بل حصرها أولاً، فقال: أشد جنود الله عشرة. فالمسألة ليست ارتجالية، بل مسألة مدروسة لديه مُسْتَحضرة في ذِهْنه، مُرتَّبة في تفكيره، فبسط الإمام لمستمعيه يده وفَردَ أصابعه، وأخذ يعدّ هذه العشرة، وكأنه المعلم الذي استحضر درسه وأعدَّه جيداً. قال: " أشد جنود الله عشرة، الجبال الرواسي، والحديد يقطع الجبال، والنار تذيب الحديد، والماء يطفئ النار، والسحاب المسخّر بين السماء والأرض يحمل الماء، والريح يقطع السحاب، وابن آدم يغلب الريح يستتر بالثوب أو بالشيء ويمضي لحاجته، والسُّكرْ يغلب ابن آدم، والنوم يغلب السُّكْر، والهمّ يغلب النوم، فأشد جنود الله في الكون الهمّ ". فهذه الأجناس هي المراد بقوله تعالى: { أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ.. } [الإسراء: 51] فاختاروا أيّاً من هذه الأجناس، فالله تعالى قادر على إعادتكم وبعثكم كما كنتم أحياء.

السابقالتالي
2 3