الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً }

أي: تعجَّبْ مما هم فيه من تخبُّط ولَجج، فمرَّة يقولون عن القرآن: سحر ومرة يقولون: شعر، ويصفونك بأنك: شاعر، وكاهن، وساحر. ومعلوم أن الرسالة لها عناصر ثلاثة: مُرسِل، وهو الحق سبحانه وتعالى، ومُرسَل وهو النبي صلى الله عليه وسلم ومُرْسَلٌ به وهو القرآن الكريم، وقد تخبّط الكفار في هذه الثلاثة ودعاهم الظلم إلى أن يقول فيها قولاً كاذباً افتراءً على الله تعالى وعلى رسوله وعلى كتابه. وقد سبق أن تحدثنا عن افتراءاتهم في الألوهية وعن موقفهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك قولهم:لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31]. وقولهم عن القضية الإيمانية العامة:ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأنفال: 32]. أهذه دعوة يدعو بها عاقل؟! فبدل أنْ يقولوا: فاهدنا إليه تراهم يُفضّلون الموت على سماع القرآن، وهذا دليل على كِبْرهم وعنادهم وحماقتهم أمام كتاب الله. لذلك، فالحق سبحانه وتعالى من حبه لرسوله صلى الله عليه وسلم ورِفْعة منزلته حتى عند الكافرين به، يردُّ على الكافرين افتراءهم، ويُطمئِن قلب رسوله، ويتحمل عنه الإيذاء في قوله تعالى:قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَ.. } [الأنعام: 33]. أي: قولهم لك: ساحر، وكاهن، وشاعر، ومجنونفَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } [الأنعام: 33]. فليست المسألة عندك يا محمد، فهُمْ مع كفرهم لا يكذبونك ولا يجرؤون على ذلك ولا يتهمونك، إنما المسألة أنهم يجحدون بآياتي، وكُلٌّ تصرفاتهم في مقام الألوهية، وفي مقام النبوة، وفي مقام الكتاب ناشئة عن الظلم. وقولهم عن رسول الله: مجنون قوْلٌ كاذب بعيد عن الواقع لأن ما هو الجنون؟ الجنون أن تُفسِد في الإنسان آلة التفكير والاختيار بين البدائل، والجنون قد يكون بسبب خَلْقي أي: خلقه الله تعالى هكذا، أو بسبب طارئ كأنْ يُضربَ الإنسان على رأسه مثلاً، فيختلّ عنده مجال التفكير. ومن رحمة الله تعالى بالعبد أن أخَّرَ له التكليف إلى سِنَّ البلوغ واكتمال العقل، وحتى يكون قادراً على إنجاب مثله لأنه لو كلّفه قبل البلوغ فسوف تطرأ عليه تغييرات غريزية قد يحتج بها، ومع ذلك طلب من الأب أن يأمر ابنه بالصلاة قبل سِنِّ التكليف لِيُعَوِّده الصلاة من الصغير ليكون على إِلْفٍ بها حين يبلغ سِنّ التكليف، وليألف صيغة الأمر من الآمر. والإنسان لا يشك في حُبّ أبيه وحِرْصه على مصلحته، فهو الذي يُربّيه ويُوفّر له كل ما يحتاج، فله ثقة بالأب المحس، فالحق سبحانه يريد أنْ يُربِّبَ فينا الطاعة لمن نعلم خيره علينا، فإذا ما جاء وقت التكليف يسهل علينا ولا يشق لأنها أصبحتْ عادة.

السابقالتالي
2 3 4 5