الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ إِذْ يَقُولُ ٱلظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً }

الحق سبحانه وتعالى لا يَخْفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهذه حقيقة كان على الكفار أنْ ينتبهوا إليها ويُراعوها، ويأخذوها سبيلاً إلى الإيمان بالله، فقد أخبر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله:وَيَقُولُونَ فِيۤ أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } [المجادلة: 8]. فكان عليهم أن يتدبروا هذا القول: فهم قالوا في أنفسهم، ولم يقولوا لأحد، فمَنْ أخبر محمداً بهذا القول الذي لم يخرج إلى عالم الواقع، ومَنْ أطلعه عليه؟ أَلاَ يدعوهم هذا الإعلام بما يدور في نفوسهم إلى الإيمان بالله؟ وما دام الحق سبحانه يعلم كل الأحوال، ولا يَخْفَى عليه شيء، فهو أعلم بأحوالهم هذه: الأول: يستمعون إليك. والثاني: وإذ هم نجوى. والثالث: إذ يقول الظالمون. إذن: هم يستمعون ثم يتناجون، ثم يقول بعضهم لبعض. قالوا: إن سبب نزول هذه الآية ما كان عند العرب من حُبٍّ للغة وشغف بأساليب البيان لذلك كانت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم من جنس ما نبغ فيه قومه، لتكون أوضح في التحدي، هكذا شأن الحق سبحانه مع كل الرسل. وكان للعرب أسواق للبيان والبلاغة يجتمع فيها أهل الشعر والبلاغة والفصاحة، وفي مكة تصب كل الألسنة في مواسم الحج، فعرفوا صفوة لغات الجزيرة وأساليبها، ومن هنا انجذبوا لسماع القرآن، وشغفوا ببيانه بما لديهم من أذن مُرْهفة للأسلوب وملَكة عربية أصيلة، إلا أن القرآن له مطلوبات وتكاليف لا يقدرون عليها، ولديه منهج سيُقوِّض مملكة السيادة التي يعيشون فيها. ومن هنا كابروا وعاندوا، ووقفوا في وجه هذه الدعوة، وإنْ كانوا مُعْجبين بالقرآن إعجاباً بيانياً بلاغياً بما في طباعهم من مَلَكات عربية. فيُرْوَى أن كباراً مثل: النضر بن الحارث، وأبي سفيان، وأبي لهب كانوا يتسللون بعد أن ينام الناس - ممن كانوا يقولون لهم:لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ } [فصلت: 26] - كانوا يذهبون إلى البيت يتسمَّعون لقراءة القرآن، ولماذا يحرمون أنفسهم من سماع هذا الضرب البديع من القول، وقد حرموا مواجيدهم وقلوبهم منه، فكانوا عند انصرافهم يرى بعضهم بعضاً مُتسلّلاً مُتخفّياً، فكانوا مرة يكذبون على بعضهم بحجج واهية، ومرة يعترفون بما وقعوا فيه من حُبٍّ لسماع القرآن. فقال تعالى: { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ.. } [الإسراء: 47] أي: بالحال الذي يستمعون عليه، إذ يستمعون إليك بحال إعجاب. ثم: { وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ.. } [الإسراء: 47] من التناجي وهو الكلام سِرّاً، أو: أن نَجْوى جمع نجى، كقتيل وقَتْلى، وجريح وجَرْحى. فالمعنى: نحن أعلم بما يستمعون إليه، وإذ هم متناجون أو نجوى، فكأن كل حالهم تناجٍ. وقوله: { وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ.. } [الإسراء: 47] فيه مبالغة، كما تقول: رجل عادل، ورجل عَدْل.

السابقالتالي
2 3