الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً }

وهنا أيضاً يقول الحق سبحانه: { وَلاَ تَقْرَبُواْ.. } [الإسراء: 34]. ولم يقل: ولا تأكلوا مال اليتيم ليحذرنا من مجرد الاقتراب، أو التفكير في التعدِّي عليه لأن اليُتْم مظهر من مظاهر الضعف لا يصح أنْ تجترئَ عليه. و اليتيم هو مَنْ مات أبوه وهو لم يبلغَ مبلغ الرجال وهو سِنْ الرُّشْد، وما دام قد فقد أباه ولم يَعُدْ له حاضن يرعاه، فسوف يضجر ويتألم ساعة أنْ يرى غيره من الأولاد له أب يحنو عليه، وسوف يحقد على القدَر الذي حرمه من أبيه. فيريد الحق سبحانه وتعالى أولاً أنْ يستلِّ من قلب اليتيم وفكره هذه المشاعر لذلك يُوصِي المجتمع به ليشعر أنه وإنْ فقد أباه فالمؤمنون جميعاً له آباء، وفي حُنوِّهم وعطفهم عِوَض له عن وفاة والده. وكذلك حينما يرى الإنسانُ أن اليتيم مُكرّم في مجتمع إيماني يكفله ويرعاه، ويعتبره كل فرد فيه ابناً من أبنائه، يطمئن قلبه ولا تُفزِعه أحداث الحياة في نفسه، ولا يقلق إنْ قُدِّر له أن يُيَتَّم أولاده، فسوف يجدون مثل هذه الرعاية، ومثل هذا الحنان من المجتمع الإيماني. إذن: إنْ وجد اليتيم في المجتمع عِوَضاً عن أبيه عَطْفاً وحناناً ورعاية يرضى بما قُدِّر له، ولا يتأبَّى على قدر الله، وكذلك تطمئن النفس البشرية إنْ قُدِّر عليها اليُتْم في أولادها. ثم يقول تعالى: { إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. } [الإسراء: 34]. أي: لا تنتهز يُتْم اليتيم، وأنه ما يزال صغيراً ضعيف الجانب فتطمع في ماله، وتأخذه دون وجه حق. وقوله: { إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. } [الإسراء: 34] استثناء من الحكم السابق { وَلاَ تَقْرَبُواْ.. } يبيح لنا أن نقرب مال اليتيم، ولكن بالتي هي أحسن. و { أَحْسَنُ } أفعل تفضيل تدل على الزيادة في الإحسان، فكأن لدينا صفتين ممدوحتين: حسنة وأحسن، وكأن المعنى: لا تقربوا مال اليتيم بالطريقة الحسنة فحسب، بل بالطريقة الأحسن. فما الطريقة الحسنة؟ وما الطريقة الأحسن؟ الطريقة الحسنة: أنك حين تقرب مال اليتيم لا تُبدده ولا تتعدَّى عليه. لكن الأحسن: أنْ تُنمي له هذا المال وتُثمّره وتحفظه له، إلى أن يكون أَهْلاً للتصرّف فيه. لذلك فالحق سبحانه حينما تكلم عن هذه المسألة قال:وَٱرْزُقُوهُمْ فِيهَا.. } [النساء: 5]. ولم يقل: وارزقوهم منها لأن الرزق منها يُنقِصها، لكن معنى:وَٱرْزُقُوهُمْ فِيهَا.. } [النساء: 5] أي: من ريعها وربحها، وليس من رأس المال. وإلاَّ لو تصوّرنا أن أحد الأوصياء على الأيتام عنده مال ليتيم، وأخذ ينفق عليه من هذا المال، ويُخرج منه الزكاة وخلافه، فسوف ينتهي هذا المال ويبلغ اليتيم مبلغ الرُّشْد فَلا يجد من ماله شيئاً يُعتَدُّ به. وكأن الحق - تبارك وتعالى - يقول: حقِّقوا الحسن أولاً بالمحافظة على مال اليتيم، ثم قدِّموا الأحسن بتنميته له وزيادته زيادة تتسع لنفقات حياته، وإلاَّ فسوف يشبّ الصغير، وليس أمامه من ماله شيء.

السابقالتالي
2 3